-
مع تسارُع التطور التقني يغدو سؤال المستقبل أكثر إلحاحاً، فالتقنية تأتي بالتغيير؛ وأي تقنية تبدو أكثر تسارُعاً اليوم من الذكاء الاصطناعي. لكن لأنَّ رؤيتنا للعالم لا تنبع فقط من حقائقه بل من تَخيُّلنا له، فإنه لا بد من ضبط مصادر تَخيُّلنا للمستقبل، والأدب هو بلا شك أحد هذه المصادر. وبما أن الحديث هو عن المستقبل، فالأدب هنا هو بالذات أدب الخيال العلمي الذي يُشكل المستقبلُ أحدَ أهم ثيماته.
في هذا المقال، وهو الرابع والختامي في سلسلة مقالات تناولت موضوع الذكاء الاصطناعي في ضوء مفهوم العقلانية والسيادة لدى ماكس فيبر وهربرت ماركوزه، نتناول بعض الأعمال الأدبية الكلاسيكية أو الأيقونية من وجهة النظر الفلسفية نفسها التي بنينا عليها في المقالات السابقة. وعند الحديث عن أدب الخيال العلمي في هذا المقال، فإننا نسمح لأنفسنا بالتحرّر من التعريف الدقيق لكلمة أدب لنناقش طيفاً من الأعمال الفنية، يشمل بالضرورة الرواية ويجمع إليها الأفلام السينمائية أيضاً، ولو أن لا شيء يمنع من توسيع الحوار ليشمل الكومِكس وألعاب الكمبيوتر، وهي وسائط فنية تحمل طروحات تتعمق كثيراً في نقاش شكل المستقبل.
ولأجل ضبط الخيال عند التفكير في شكل المستقبل، فإنه لا بد من وضع أساس نستطيع الانطلاق منه عند التنبؤ. والقاعدةُ التي ننطلق منها هنا هي أنه مهما كانت طبيعة النظام الاجتماعي المُتخيَّل، فإن الثابت البشري هو أنه لا يمكن لأي نظام اجتماعي أن يتخلى عن محتواه السيادي، فالمجتمع لا يوجد دون محتوى سياسي ينبع أساساً من حاجته للسيطرة على الطبيعة ويتمظهر في هيكل السلطة داخله واللازم لاستمراره. وهي الفرضية التي تتأتى ممّا طرحه هربرت ماركيوز من أن العقلانية كما وصفها ماكس فيبر، والتي هي أساس المجتمع الرأسمالي، هي ليست العقلانية في ذاتها بل هي شكل السيادة المُضمرة في النظام الرأسمالي، والذي اقتضته سيادة التقنية بعد الثورة الصناعية.
كنا قد ناقشنا في مقال آخر من هذه السلسلة أنه بناء على هذه الفرضية الأساسية، فإنه لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يأخذ مكان البشر في عملية الحكم إذا لم يتمكن من التصرف بحسب مفهوم السيادة، إذ أن السيادة السياسية هي الثابت الذي يعود إليه كل شكل من أشكال النُظُم التي يبنيها البشر. ولأن السيادة شرطٌ بشريٌ أساسي كما يبدو، فإن أي فراغ سوف تتركه الآلة في مراحل تطورها، وكذلك أي أفق جديد تفتحه أمام البشر خلال مراحل تطورها، سوف يتم استغلاله من قبل البشر للوصول إلى شكل من أشكال السلطة. وبينما يبدو أن العمل هو المرشح القوي لفقده لصالح الذكاء الاصطناعي، فإن السيادة تبدو على العكس منه مُحصَّنة نتيجة عوامل تقنية وأخرى بشرية. ففي حين أن العمل نشاطٌ لطالما احتوى حمولة أخلاقية متناقضة، وتراوحَ شعور البشر حياله بين الكره والأنفة والاضطرار أحياناً وبين اعتباره معنى الحياة في أحيان أخرى، الأمر الذي يُفهَم معه دافعُ البشر لتطوير آلات تقوم بالعمل، فإن السيطرة كانت دائماً حلم البشر الأثير والمتغلغل في مختلف تراتبيات عناصر المجتمع، والذي يجد لنفسه تَمظهُراً في علاقات البشر من أصغر تجمّع إلى أعلى سلطة، مما يُرجِّحُ دافعَ البشر إلى استغلال الآلة لتعزيز سلطتهم أياً كان مستواها. كما أنه على عكس العمل المُمنهج الذي تبرع الآلة في القيام به، فإن فكرة السيادة والرغبة في السلطة تكمن في صميم الدوافع البشرية، ولا يُعرَف إذا ما كانت الآلة ستتمكن من حيازة هذه الدوافع، لذلك لن يكون أمام الآلة مجال للتطور باتجاهات سلطوية لأن البشر سوف يواظبون على استغلالها لصالح نظام سيادة يكونون أسياده، وإن لم يعنِ ذلك أنهم جميعاً أسيادٌ فيه بالتساوي بطبيعة الحال. وإن حدث وطوَّرَت الآلة دوافع سلطوية فعّالة وتمكّنت من السيطرة بالمطلق، فإننا قد نكون تحولنا عندها إلى حالة حدّية يغدو من غير المُجدي معها التفكير في شكل الدولة.
وفي حين أن منطق الدولة اليوم يُخوِّلُ الأفراد بما هم مواطنون وعاملون ودافعوا ضرائب سلطةً من نوع ما على الحكومات، فإن العقلانية التي يحتاجها البشر لإدارة مجتمعاتهم هي الأساس الأعمق لهذه المكانة التي يتمتع بها الأفراد، أي هي أساس السيادة المُضمرة في التقنية التي يقوم عليها مجتمع اليوم، لأن البشر الأفراد هم عاملٌ أساسي في إدارة التكنولوجيا والتخطيط وإدارة الموارد والاختيار بين البدائل. لكن إذا ما تخيلنا مجتمعاً متطوراً تقنياً بحيث لا تحتاج الآلة فيه إلى إدارة بشرية أو تخطيط بشري من أي نوع، فإنه يمكننا أن نتخيل أن تركيبته السيادية لن تضمّ دوافع لمنح القيمة السيادية لأفراده على شكل حقوق انتخاب ومشاركة في السلطة.
نستنتج مما سبق أن التهديد الذي يمكن أن يمثله الذكاء الاصطناعي على البشر ليس السيطرة على مجتمعاتهم وجعلهم في منزلة الكائنات الأقل قيمة، لأن لدى البشر الدافع لاستغلال الآلة في كل مرحلة من مراحل التطور لتعزيز سيادتهم، التي هي دافعٌ بشري ممتد على مستوى الأفراد والمجتمعات. لكن التهديد الأساسي، والأكثر احتمالاً، هو أن تتولى الآلة زمام العقلانية نيابة عن البشر وتُنهي احتكارهم لها فلا تعود ميزةً بشرية حصرية. هكذا يمكن أن تصبح العقلانية البشرية فائضاً لا حاجة له، بعد أن كانت العنصر المحرك للعمل والاجتماع والنظم السياسية منذ الثورة الصناعية. هذا التراجع في قيمة العقلانية كصفة حصرية للبشر لن يؤدي إذن إلى تحويل البشر إلى نوع أدنى، بل إلى تغيير في تراتبية المجتمعات البشرية ومعنى الحكم والحقوق والمواطنة القائمة على أن للأفراد دوراً أصيلاً في المحافظة على عمل النظام بصفتهم جزءاً فاعلاً بما يقدمونه من عمل وعقلانية، وهي المكانة التي ترافقت مع قيام المجتمعات بتقنين القمع الذي تمارسه على مواطنيها، وتقليل حجم القمع الفائض موضوعياً كما أسماه ماركوزه، أي القمع الذي لا ضرورة له في الإنتاج، والذي أدى إلى احترام قيمة الأفراد وحقوقهم.
لا نتحدث إذن عن مستقبل يشابه ذلك الموصوف في فيلم The Matrix، حيث الآلة صاحبة السيادة تخلق عالماً جديداً قائماً على حاجاتها بالمطلق، وما البشر فيه إلّا آلات لتوليد الطاقة. كما أنه ليس العالم الموصوفَ في فيلم The Terminator، حيث تعي الآلة عناصر السيطرة والسلطة وترى في البشر أعداء يجب التخلص منهم. في الحالتين تخرج السيادة من يد البشر، وتنتقل إلى يد الآلة. لكن ذلك يبدو صعبَ التصور كما ناقشنا أعلاه، لأن المجتمعات البشرية قائمة على تراتبيات نابعة من رغبة البشر المستمرة في حيازة السلطة وتضخيمها، فيجعلنا هذا الفهم لعالم المستقبل أقربَ إلى أعمال أخرى، مثل روايتَي عالم جديد شجاع أو 1984، ففي كلا العملين يبدو العالم محكوماً من البشر لكن ضمن شروط حكم مختلفة لأسباب تتعلق بتطور تقني من نوع ما.
العالَم في رواية عالم جديد شجاع لألدوس هكسلي هو عالم عالي الرفاهية، إلى درجة أن لا مشكلة أصلاً في توزيع الموارد، أي أنه عالم تختفي فيه المشكلة الاقتصادية الأساسية للمجتمعات البشرية، لكن هذا الانتصار على المعضلة الاقتصادية يأتي على حساب تقسيم طبقي راديكالي للبشر، ليس على أساس مجتمعات أو مهن أو سادة وعبيد، بل يتطرف في الأمر إلى تهجين البشر أو تعديلهم وراثياً (لا تبدو طريقة التهجين هذه محددة بدقة في العمل المكتوب سنة 1931) إلى أنواع يختص كل منها بنشاط بشري مختلف، بحيث يضبط هذا التعديل قدراتهم العقلية والجسدية في توازن مع مهامهم المحددة في المجتمع، كما يضبط آمالهم وطموحاتهم بحيث يجدون أنفسهم دائماً في المكان الأنسب لهم لتتحقق الاستفادة الأفضل للمجتمع.
ضمن إطار وصفنا للمجتمع الرأسمالي القائم على العقلانية، وبتطبيق ملاحظة ماركوزه المتعلقة بعقلانية ماكس فيبر، فإن مجتمع عالم جديد شجاع هوعالم يخضع لعقلانية مفرطة، بحيث أنها تَحدُّ من آفاق حرية البشر راديكالياً وتقضي على فرديتهم، فهي -إذا ما استخدمنا لغة ماركوزه- ليست العقلانية بذاتها، بل هي نوع من العقلانية يحد من حرية البشر في اختياراتهم. نلاحظ هنا أن هذه العقلانية المفرطة تحافظ على سيادة البشر على قمة الهرم السلطوي، لأنها تُمكِّنُ أولئك الذين في السلطة من خلق شروط تنظيم لا نهائيةِ الضبط، لكنها أيضاً تنفي دور العقلانية البشرية بصفتها عقلانية فردية، ممّا يغير من دور الأفراد في المجتمع بصفتهم أساس العقلانية، ويجعلهم خاضعين بالمطلق للتنظيم الذي يبدو أزلياً، وهو ما يمكن أن نَصِفَهُ بالاستعانة بمصطلحات ماركوزه مرة أخرى بأنه تغيّرٌ في شكل السيادة المُضمَر في النظام إلى شكل سيادة غير قائم على العقلانية البشرية.
يبدو المجتمع في الرواية شديد الاستقرار ولو أنه غير مُرضٍ للقارئ، في تناقض حَدِّي بين مجتمع يحقق الكثير من الشروط الموضوعية لأفراده الذين يبدون راضين عنه لكنه غير مُرضٍ بمعايير اليوم، وهي المعايير التي يتبناها كاتب الرواية -وربما معظم القراء أيضاً- إلا أن الملفت أنه لا يستطيع تغليب قيمنا الحالية من خلال محاكمة المجتمع الموصوف من داخله، فالانهيار أو الفوضى تصيب هذا المجتمع من أطرافه المهمشة التي تركها خارج التنظيم، والتي تُصدِّرُ له الشَّواش الذي تعانيه، والمماثل بشكلٍ ما لشَّواش عالمنا الحالي وفوضاه. يجعلنا هذا نَحارُ في القراءة النهائية للعمل، فمن جهة نفكر كيف يمكن للبشر توفير عالم أقل فوضى من العالم الحالي دون التفريط في الوقت ذاته بالفردية، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل أن الكاتب لم يقدم لنا حجة حقيقة لصالح الفردية ضد التنظيم سوا أنها عنصرٌ أصيلٌ فينا كبشر.
العمل الآخر الذي يمكن مقاربته في هذا الإطار هو رواية 1984 لجورج أورويل، وهو عمل شهير آخر إلى درجة أنه بات أحد أيقونات الرواية السياسية، لكننا لن نتناول العمل من حيث إسقاطاته على عالمنا الحالي، بل من حيث مساهمته في تَخيُّل المستقبل في ظل التطور التكنولوجي. ففي هذه الرواية المكتوبة سنة 1948، يبدو العالم مُدَارَاً من قبل سلطة دكتاتورية مطلقة ليس فقط من حيث تَركُّزها في قبضة شخص واحد هو الأخ الأكبر أو السلطة التي يمثلها، بل أيضاً من حيث أنها تتحكم بكل عناصر حياة المجتمع وصولاً إلى تزييف التاريخ وخلق الحقائق. يتمتع هذا العالم أيضاً بحدٍّ مرتفع جداً من الرفاهية أخذاً بالاعتبار الفترة التي كُتب فيها، لكنه يختلف عن مجتمع عالم جديد شجاع في أنه بوليسي بشكل مفرط، وفي أن العلاقة بين سلطته ومواطنيه تبدو متوترة وقائمة على ضبط سلطوي راديكالي.
إذا ما استخدمنا تعابير فيزيائية، يمكن القول إن التوازن القائم في مجتمع عالم جديد شجاع هو «توازن مستقر»، لم يُخِلَّ به إلا عاملٌ من خارجه. أما التوازن بين السلطة والمجتمع في 1984 فهو «توازن حَرِج» يحتاج إلى تدخل عنيف وحَدِّي من السلطة في كل وقت حتى لا ينهار. في عالم 1984 يأتي الانهيار من الداخل لأن البشر لن يتخلوا طواعية عن فرديتهم، فيخرج منهم دائماً من يطالب بقدر أكبر من الحرية التي يتيحها العالم شديد الضبط والتسلُّط، والذي تغيب عنه الحقيقة لصالح السردية الإيديولوجية المفرطة في انغلاقها.
عَالَمُ 1984 يستخدم أيضاً مستويات شديدة الضبط من العقلانية بحيث تنفي جميع إمكانات الحرية، لكن على عكس مجتمع عالم جديد شجاع حيث يتم استغلال العقلانية المفرطة الكامنة في الآلة لصالح رفاهية المجتمع، فإن السلطة في عالم 1984 تستغل السيادة الكامنة في إمكانات الآلة لتعزيز مستوىً لا نهائي من الاستبداد. السيادة التي يصفها ماكس فيبر في المجتمع الرأسمالي بأنها سيادة على الطبيعة وبالتالي على الإنسان بالضرورة لأجل تحقيق شكل التنظيم الحالي للمجتمع، تتجاوز ذلك في عالم رواية 1984 إلى سيطرة على الحقيقة نفسها بما فيها من تاريخ وإرث مكتوب وصولاً إلى ذاكرة الأشخاص.
هذان مثالان لتخيُّل التغيُّر في شكل العلاقة بين العقلانية والمجتمع بفعل تَغيُّر التقنية، فهي مجتمعات مضبوطة داخلياً ومُهيمنة خارجياً وبذلك هي قابلة للاستمرار. في المثالين يعتمد المجتمع المُتخيَّل على عوامل تقنية غير موجودة في عالمنا الحالي، من تعديل جذري لسمات البشر وسيطرة مطلقة على وسائل الإعلام والتدخل التفصيلي في خصوصيات المواطنين، بهدف تحقيق قدر أعلى من الضبط الذي هو سِمة العقلانية. ولأن الضبط المقصود هنا يراعي فردية البشر، فإنه يُخِلُّ بالتوازن الذي تَخيَّله ماكس فيبر بين العقلانية والآلة، والذي ينشأ منه التوازن بين الأفراد والسلطة في المجتمع الرأسمالي الحالي.
ومثلما أن الاختلال في التوازن بين العقلانية والآلة يأتي لصالح مجتمعات شديدة التنظيم وعالية الرفاهية كما في عالم جديد شجاع أو مجتمعات مستبدة ومتسلطة في سرديتها الإيديولوجية كما في 1984، فإن كِلا الاحتمالين المُتخيَّلين تغيب عنهما الفردية لأن شكل السيادة الكامنة في النظام لم يعد مستنداً إلى العقلانية بصفتها «سِمة بشرية» بل بصفتها «وسيلة ضبط» تجعلها قيمة تسمو فوق البشر أنفسهم.
بالعودة إلى الذكاء الاصطناعي، فإن ما نَخلصُ إليه هو أن البشر يبدون في مواجهة احتمالات تطور الذكاء الاصطناعي أمام معضلة، إذ من الممكن أن يُتيح لهم قدرات عالية ورفاهاً أكثر وتنظيماً أعلى، إلا أنه يحمل في طياته تهديداً بتراجع الفردية إذا ما رَكَّزنا معناها على اختلاف القدرات والمواهب بما يؤدي إلى التميز بين الأشخاص. هذا التناسب العكسي بين زيادة القدرات والرفاه وتنظيم المجتمع من جهة، وتراجع دور الفردية بصفتها حاملة للعقلانية كصفة بشرية من جهة أخرى، يمكن له أن يفتح التوقع على احتمالات عديدة بعضها سوداوي كما في الروايتين مع مراعاة الاختلاف بينهما، من غياب تام غير اختياري للفردية إلى أشكال دكتاتورية مفرطة في سلطويتها.
بناء على كل ما سبق، وباعتبار أن غاية هذه الأعمال الأدبية والفنية هي مساعدتنا على التفاعل مع المستقبل، فإنه يبدو منطقياً عند هذه النقطة من المُحاجّة أن نمدَّ السياق إلى تخيُّل ردِّ فعل البشر على هذه التطورات، فبالتأسيس على فرضية السيادة المُضمرة في النظام، يمكن لنا تَخيُّل سيناريوهين مختلفين. الأول هو أن يأتي حل المعضلة من قيام البشر بإيجاد مكامن جديدة لفردتيهم وعقلانيتهم، يسبقون فيها التطور التقني إلى آفاق بشرية جديدة غير مطروقة تطرح أسئلة أعمق ممّا لدينا الآن، وتحتاج إلى إجابات من نوع لم نتخيله بعد إذ لم نُطوِّر الآلة للعمل عليه، فنسبق ذاتنا في السباق الأزلي مع الذات الذي فرضناه على أنفسنا منذ نشأة الحضارة. وكما كان الاجتماع البشري، بكل ما تَرتَّبَ عليه من أخلاق واختراعات وسياسة واقتصاد، سبباً لأمورٍ لا سابق لها في الطبيعة، فإنه يمكن للبشر أن يخلقوا مجالات فكرية غير موجودة الآن.
أما السيناريو الثاني، فيكمن في تَخيُّل حالة تقوم على أن يجد البشر سنداً ما للقيمة الإنسانية غير مُستنِد إلى العقلانية، ويتجاوز أخلاقنا الحالية إلى مكان جديد تكون القيمة البشرية فيه أمراً مطلقاً، مُسلَّماً به بغض النظر عن تراتبيات السلطة ومضامين السيادة، وبغض النظر عن فردية الأشخاص أو إلى جانب الفردية، وإن كان تَخيُّل عالم كهذا يحتاج منا إلى تَخيُّل بنى اجتماعية وسلطوية مختلفة. يبدو عالمٌ كهذا واعداً ومثالياً من نواح متعددة، فهو مستند بالأساس على قيمة البشر بما هم، إلا أن استقراره مُعتمِدٌ بشكل جذري على السند الجديد للقيمة الإنسانية في منظومة معتمدة على هذه القيمة بشكل إيديولوجي.
يبقى أن ننوِّه إلى أن أعمال الخيال العلمي الواردة في هذا المقال ليست أمثلة الحصرية، بل هي اختيار يحكمه السياق من تضادٍّ وتشابه بين الأعمال. ورغم أنه لا يمكن المصادرة على التاريخ أو تمظهره الخاص بوصفه مستقبلاً، إلا أن فرضية السيادة المُضمَرة في النظام تبدو محاجّة فاعلة ومفيدة في هذا السياق، ويمكن تطبيقها أيضاً لفهم أعمال أخرى من الخيال العلمي لم يتّسع المجال لذكرها في هذا المقال.