تستأنف هذه المناقشة تناولاً سابقاً للكاتب (تشرين الأول 2019)، حاول الإجابة على سؤال ما هي الثورة السورية؟ عملت تلك المقالة على التمييز بين خمس دلالات مختلفة لفكرة الثورة، وأرادت تَبيُّن ما مات وما بقي حياً، ما انطوى وهو جدير بأن يبقى، وما هو باقٍ لكن دفنه أوجب. ورأت أن الثورة كصراع من أجل سورية جديدة كانت منتهية سلفاً وقتها، ثم أن فشل الثورة يوجب العمل على بناء القضية السورية.

فضلاً عن نظرات استعادية في تصورَي الثورة ثم القضية السورية وتحديات بنائها، تعمل هذه المناقشة على صوغ تصور أولي عن المسألة السورية كمعضلة فكرية وسياسية ونفسية، يرجح أن ترافقنا لزمن طويل، ثم تقلِّب النظر في تركيب فكري سياسي يستوعب ويتجاوز أطروحاتنا ونقائضها خلال ثلاثة عشر عاماً ونصف.

ما عدا الاستطراد الختامي، الغاضب، كُتبت هذه المقالة قبل الطور الحالي من توسيع إسرائيل لحربها الفلسطينية إلى لبنان، وما يبدو من دمار واسع أصاب حزب الله وبيئته، ويصيب لبنان ومجتمعه، وما يحتمل حدوثه من تحولات سورية، نرى منها سلفاً نأياً محدداً للنظام بنفسه عن المحور الإيراني. نحن أمام منعطف كبير، ربما يكون ثاني أكبر ما يحدث إقليمياً، بعد «الربيع العربي»، منذ الاحتلال الأميركي للعراق. لعلّه لذلك من شأن نظرات راجعة إلى الفصل السوري من الربيع أن تضعنا في موقع أنسب للنظر في هذا المفصل الجديد.

الثورة  

يحدث في الاستخدام اليومي أن تطلق عبارة الثورة السورية على مجمل الصراع الذي تفجر في البلد في سياق «الربيع العربي»، والمستمر بإيقاعات مختلفة إلى اليوم. لكن هناك من يجادلون في ذلك، ويدفعون نحو فكرة أن صفحة الثورة السورية انطوت، وإن على خلاف في شأن وقت انطوائها. وقد يرى بعضنا أن التأكيد على نهاية الثورة مهزومةً أو مقتولة مُحرِّرٌ أكثر من الكلام على استمرارها، ويؤسس للعمل من أجل بداية جديدة مغايرة. كاتب هذه السطور دافعَ غير مرة عن فكرة أن الثورة كتطلع إلى «إسقاط النظام» وتغيير سياسي يطوي صفحة سورية الأسد باتجاه تحرري قد أخفقت، وربطَ ذلك بانهيار الإطار الوطني للصراع السوري بدءاً من منتصف صيف 2012، وتتوج بالتدويل المتصاعد للقضية السورية بعد المجزرة الكيماوية في آب 2013 والصفقة الكيماوية الأميركية الروسية التي أعقبتها بعد ثلاثة أسابيع.

كان من مظاهر انهيار الإطار الوطني للصراع ومن محصّلاته في آن الظهور الصاعق لتشكيلات عدمية إسلامية سنّية، أخذت الصراع في اتجاه آخر تماماً، وأسهمت في القضاء على الرهانات الوطنية للثورة السورية بصور مختلفة، منها استهداف من يمثلون هذه الرهانات، ليس في الرقة وحدها، بل كذلك في دوما والغوطة الشرقية وفي مناطق حلب وإدلب، في كل مكان في واقع الأمر؛ ومنها فرض نموذج حكم ديني طغياني في ضرب من أسدية بلا أسد، ومع درجة أعلى من التدخلية الاجتماعية والحكم اليدوي وتسييل العنف في الحياة اليومية؛ ومنها عدمية وطنية ليست معنية بسورية ومجتمعها وتاريخها وذاكرتها، وما أنتجه السوريون من ثقافة وفكر وفن وأدب، بل يغلب أن تكون على علاقة عداء معها وتكفير لها، بخاصة من طرف السلفيين الحربيين.

وقد يفيد التمييز، في هذا السياق، بين ضربين من السلفية الحربية التي أخذت بالظهور بعد نحو عام من بدء الثورة السورية. ضرب أول من تشكيلات معولمة هي ما كان يطلق عليها السلفية الجهادية، ممثلة بالقاعدة والدولة الإسلامية في العراق التي أسسها أبو مصعب الزرقاوي، وقد تمثلت في سورية بجبهة النصرة ثم بداعش؛ أما الضرب الثاني فجسّدته تشكيلات سلفية محلية مثل جيش الإسلام وأحرار الشام. ليس للضرب الأول علاقة بالثورة السورية، ولا هو ذو صلة بديناميكيات الصراع السوري، إلا من حيث أن الدمار الاجتماعي في الداخل وتكسّر الحدود مع المحيط بما يوفر لمجموعاته بيئة انتشار إضافية. أما الضرب الثاني، المحلي، فهو نتاج ديناميكية تجذّر (Radicalization) وتطرف وعسكرة وتطييف داخلية المنشأ، ازدادت حدة على مرّ الشهور بعد الثورة السورية وما وُوجهت به من عنف تمييزي تدميري (تقصيت ذلك في مقالة بعنوان صعود العدمية المقاتلة في سورية، منشورة في أوائل حزيران 2012). على أن ثمة مساحتَي تقاطع بين الظاهرتين. الأولى هي انخراط سوريين بأعداد غير قليلة في المنظمات العدمية المعولمة التي استقطبت مجاهديها من عشرات البلدان، والثانية تقارب عَقَدي بين ضربَي المنظمات المعولمة والمحلية، يتمثل في ما سميته قبل سنوات: الباراديغم السلفي الجهادي، تتضاءل الفوارق بين صنفي التشكيلات من وجهة نظر الوطنية السورية.

انحسرت هذه الموجة الوبائية بعد أن تفرعنت فرعنةً مذهلة بين عامي 2013 و2017 أو 2018، وما بقي من تشكيلاتها أخذت مسافة من الجذع العدمي المُعوْلم، وصارت تعمل على ربط نفسها بالثورة السورية بعد أن كانت قوة أساسية في تدميرها من داخل. جبهة النصرة تحولت إلى هيئة تحرير الشام التي تسيطر في إدلب، ويبدو أنها أخذت تفكر في نفسها كـ«كيان سنّي» في محاولة لتعبئة المشاعر الطائفية السنية إلى جانبها، وربما التأسيس لواقع يتعذر تجاوزه وقت ينفتح يوماً باب تسوية سورية، وصار جيش الإسلام جزءاً من «الجيش الوطني» التابع لتركيا، وأحرار الشام تراوَح بين الاثنين.

لكن ماذا يعني بالتحديد انهيار الإطار الوطني للصراع؟ بالدلالة المباشرة يعني أن الصراع لم يعد صراعاً سورياً سورياً، لم يعد حتى حرباً أهلية سورية، وذلك بفعل تكسّر الجغرافيا السورية وتعدُّد الأطراف الخارجية الفاعلة، من دول ولا دول. ويعني استمرار الصراع بعد انهيار إطاره الوطني نزع وطنية متصاعد لبيئة الصراع ودينامياته وأطرافه، وهذه هي العاقبة الأخطر. إذ يفقد الصراع غائيته، ويتعرض لتحكُّمِ أقوى الفاعلين الخارجيين. ومن المآلات المباشرة لذلك خروج السوريين من نطاق التأثير على مصيرهم بالنظر إلى كونهم أضعف من القوى الإقليمية والدولية المتدخلة. هذا ينطبق على الثائرين السوريين أكثر من النظام، لكنه ينطبق كذلك على النظام الذي لم يعد يتحكم بشروط استمراره.

يتعلق الأمر قبل كل شيء بنزع وطنية الدولة، وهذه عملية سابقة للثورة، تمثلت في تطييف منهجي مبكر، منذ سبعينيات القرن العشرين،  للوظيفة الأمنية التي طورت عبر السنوات والعقود اختصاصاً بعمليات تحطيم أي صيغ انتظام اجتماعي وسياسي مستقلة، كما في حماية خصخصة الدولة وشخصنتها، وصولاً إلى إقامة سلالة مالكة حاكمة عام 2000. لكن نزع وطنية الدولة ظهر بجلاء بعد الثورة عبر رفض الحل السياسي والقمع التمييزي الذي انصب على البيئات السنية، وصولاً إلى دعوة قوى أجنبية لحماية النظام. وأتكلم على نزع وطنية الدولة، وليس النظام وحده، ليس فقط لأنه جرت خصخصة الدولة السورية من قبل النظام، ولكن بأثر تسهيل الاختراق الأجنبي على مستوى مؤسسات الحكم، والتراب الوطني، ثم عمليات الهندسة السكانية التي تجري برضا النظام وتواطؤه. كإقليم وكمؤسسات وكشعب، الدولة السورية منزوعة الوطنية اليوم.

وشكَّلَ نزعُ وطنية الدولة إطاراً لعمليات نزع وطنية طالت المجتمع منذ ما قبل الثورة كذلك، عبر التمييز وتغذية تباعد اتجاه تماهيات السوريين، بحيث تتشكل منهم شعوب لا شعب واحد أو متقارب، وصولاً، بعد انهيار الإطار الوطني، إلى تبعية الشعوب المختلفة لقوى أجنبية مختلفة.

وتشترك الإسلاميات السنية، بما فيها غير السلفية، في عدميتها الوطنية، أعني التقليل من معنى الوطنية السورية الجامعة وعدم التوظيف فيها، إن لم يكن العداء لها. أما الإسلامية الشيعية التي ترعاها إيران، سواء القديمة الكيان مثل حزب الله، أو الأحدث مثل الحشد الشعبي العراقي، أو تشكيلات مثل فاطميون وزينبيون تشكّلت بعد الثورة السورية بغرض المشاركة في قمعها، فهي كلها لا وطنية في المنشأ والأساس.

ومثلما تقدم، يمكن المجادلة بشأن توقيت انتهاء الثورة كانتفاضة اجتماعية وطنية، لكن الربط بين النهاية وبين انهيار الإطار الوطني للصراع يبدو الأساس الأصلب للتقرير في هذا الشأن. وهو يحيلنا إلى ما بين تموز (يوليو) 2012 والصفقة الكيماوية الأميركية الروسية في 12 أيلول (سبتمبر) 2013، مروراً بظهور داعش والتدخل العلني لحزب الله في معركة القصير، وبالطبع المذبحة الكيماوية في آب (أغسطس) 2013. في التاريخ الأول، تموز 2012، حدثت عدة أشياء متواقتة، شكلت منعطفاً حاسماً في تاريخ الثورة السورية: (1) سلَّمَ النظام أسلحة ومناطق من البلد لمحازبي حزب العمال الكردستاني ليتفرغ لمواجهة الثورة في المناطق الأخرى؛ (2) اغتيل ضباط خلية الأزمة في دمشق؛ (3) سيطرت تشكيلات مقاتلة على الأحياء الشرقية من حلب ودخلت حي الميدان في دمشق؛ (4) سُجّل أول استخدام للبراميل المتفجرة؛ (5) انحسرت بشكل حاد المظاهرات والتجمعات الاحتجاجية التي كان عدد بؤرها في صعود حتى حزيران (يونيو) 2012. وفي الأسبوع الأول من آب انشق رئيس الوزراء رياض حجاب. وفي الوقت نفسه تقريباً أسر مقاتلو الجيش الحر 48 إيرانياً، يرجح أنهم كانوا خبراء أمنيين وعسكريين. وفي أغرب صفقة تبادل أسرى يمكن تصورها أفرج عنهم في الشهر الأول من 2013 مقابل إطلاق النظام 2130 معتقلاً سورياً. ليس هناك مثال يظهر مدى إيرانيّة النظام وسوريّة الثورة عليه أكثر من هذه الصفقة.

ظهور داعش في نيسان 2013، وتدخل حزب الله المسلح العلني في القصير في أيار، ثم المجزرة والصفقة الكيماوية، تؤشر بمجموعها على اكتمال انهيار الإطار الوطني، ودخولنا في طور جديد بَعد وطني وبَعد ثوري إن جاز التعبير.

وقد يكون الحدث الذي توَّجَ عمليات نزع الوطنية هو اختطاف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي من قبل جيش الإسلام في دوما في الشهر الأخير من 2013. للتشكيل السلفي المجاهد المذكور تاريخ من عمليات التغييب والاغتيال، في تماثُل واسع مع داعش في الفترة نفسها، وبموازاة خطاب من مؤسسه زهران علوش جمع بوضوح ووعي بين بين الطائفية السنية ومعاداة الديمقراطية.

التدخلات الأجنبية بدأت بمنظمات وشبكات ما دون الدولة من الجهادية الشيعية والسنية، وتنظيم حزب العمال الكردستاني من تركيا، ثم بتدخلات مباشرة لدول قريبة وبعيدة أكملت الانهيار ونزع الوطنية. بدأتها الولايات المتحدة عام 2014، ثم روسيا بعدها بعام، ثم تركيا بعد روسيا بعام، وانقسمت سورية إلى أربع سوريات، بحمايات أجنبية لكل منها وبروابط تبعية خارجية- داخلية.

ومنذ عام 2013 انطلقت موجة لجوء هائلة نحو البلدان المجاورة، وبلغت أوروبا بعد ذلك بنحو عامين فيما عرف فقط آنذاك بأزمة اللاجئين. يتجاوز حجم اللجوء السوري اليوم 7 ملايين، متناثرين في بلدان قريبة وبعيدة.

واتجهت العلاقة بين الدول المتدخلة ومنظمات ما دون الدولة لأن تكون علاقة رعاية واستتباع. واحدة من السوريات الأربعة القائمة اليوم يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المسلح، سليلُ حزب العمال الكردستاني التركي. هذه السورية محمية من الأميركيين (ومن الروس في مناطق تل رفعت). هناك سورية أخرى محمية من قبل الأتراك تسيطر على مناطق من الشمال والشمال الغربي السوري، وتتبعها تشكيلات سورية، كانت فيما مضى سلفية محلية أو بقايا مجموعات الجيش الحر بعد أن لم تَعُد لها قضية. وتضم المنطقة نواحي مختلطة سكانياً، عرب وكرد وتركمان، منها منطقتان بأكثرية كردية كبيرة، عفرين ورأس العين، احتلتهما تركيا عامي 2017 و2019 على التوالي. ويتمتع التركمان بأفضلية في السلطة الفعلية في المنطقة، حتى ليتندّر الناس هناك بأن بلدة الراعي، وأكثر سكانها من التركمان، هي القرداحة الجديدة. سورية الثالثة هي مركز محافظة إدلب ومناطق حولها يسيطر عليها سليل تنظيم القاعدة الذي يسمى اليوم هيئة تحرير الشام، وهذه المنطقة تحميها تفاهمات «خفض التصعيد» الروسية التركية، والدولية بصورة ما، الأساس فيها أنها منطقة مهجرين إلى جانب منطقة السيطرة التركية، يحاذر الفاعلون الدوليون من إطلاق موجة هجرة ولجوء واسعة أن تغيرت الأوضاع فيها. وسورية الرابعة هي ما تستحق اسم الأسدية، يرأسها بشار الأسد، ويحميها الإيرانيون وميليشيات تابعة لهم، والروس. ومنذ عام ونيف هناك وضع خاص للسويداء، يتميز بضرب من تعايش غير ودّي بين منتفضين محليين وبين أجهزة النظام. وتقع خارج هذه الترسيمة مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ 1967. إسرائيل تقصف في سورية منذ مطلع 2013، وتستهدف في الغالب مصالح إيرانية.

وكان من بين أكثر ما تحطم في سنوات الصراع هو المجموعات «الوطنية الديمقراطية»، المنحدرة من المعارضة التقليدية لنظام حافظ الأسد، أو المتشكلة في سنوات حكم وريثه بشار من شبكات نشطاء ومجموعات شبابية، كان من أنشطها في بدايات الثورة لجان التنسيق المحلية التي كانت رزان زيتونة أبرز مؤسسيها. الإطار العام للمعارضة الرسمية، الائتلاف الوطني، قاد نفسه بنفسه إلى عملية نزع وطنية عبر تبعية مشينة للسلطات التركية، أفضت إلى خروج معظم غير الإسلاميين منهم، وإن لم يستطع الخارجون أن يشكلوا شيئاً جديداً قابلاً للحياة.

وحيث هناك من يصرّ على استمرار الثورة السورية اليوم، فإنه لا يفكر فيها في إطار وطني ديمقراطي، فيدافع عن تصور سورية جديدة جامعة، تقوم على المواطنة والحريات العامة، والمساواة أمام القانون والتعددية السياسية والانتخابات الحرة، بل في الغالب كثأر طائفي ضد إيران وأتباعها. وهذا نزعٌ لوطنية الثورة يَردُّها عملياً إلى انقلاب سني.

ومع هذا كله فإنه إذا فكرنا في سورية في سياق الثورات العربية الأخرى، ربما نتبين مفارقة غريبة. في سورية فشل التغيير السياسي الذي تطلع إليه الثائرون، ولم يتحقق ما تحقق في تونس ومصر واليمن وليبيا بصور مختلفة من تنحي الطاغية أو هربه أو مقتله. ورغم أن هذا وحده ليس تغيراً مهماً للنظام، إلا أنه شيء ملموس يطوي صفحة، هذا إن لم يبدأ صفحة جديدة. في سورية لم نحصل حتى على ذلك. لكن سورية تغيرت بعمق أكثر من البلدان الأخرى، حتى أنه لم يبقَ شيء فيها لم يتغير. تغير في كل الاتجاهات، حجمه واتساع نطاقه يلغي أي إمكانية للعودة إلى الوراء، ويحمل في طياته تغيّرات أخرى يصعب تقديرها، فالعملية مفتوحة ومستمرة، وليست موشكة على استقرار قريب. ذكرنا فوق الأوجه التدميرية لها التغير. هناك بعض أوجه إيجابية: تسيَّسَ المجتمع السوري بقوة وعلى نطاق واسع، ونشطت في مجالات مختلفة من العمل العام أعداد كبيرة وغير مسبوقة من السوريين. كما ظهرت منظمات ومراكز تفكير ونقاش من كل نوع، وانطلقت القدرات التعبيرية لسوريات وسوريين لا يُعدّون. ومنها ثقة مكتسبة بالنفس رفعت تقدير كثيرين منا لأنفسهم ووضعتهم في موقع أفضل لمحاورة العالم ونقده، ومنها ثورات شخصية عميقة في حياة عدد كبير من الأفراد، النساء بخاصة، ومنها أخيراً ذاكرة ثورية ورموز ثوريون، وهو رصيد لا يمكن تجاهله في أي نضالات مستقبلية.

وبأثر ذلك، يبدو كأنَّ سورية هي البلد الوحيد الذي شهد ثورة. المفارقة أنه حيث أراد سوريون كثيرون ثورة موجهة نحو التغيير السياسي في البلد فشلنا، ولكن حدثت ثورة، «قلبت البلد فوقاني تحتاني» حيث لم يشأ أحد ولا يقدر أحد على التحكم. هناك تغير «ثوري» واسع عميق وآثاره ستستمر لوقت طويل، وإن بدا أنه ليس هناك ذات ثورية في دفة القيادة تتحكم به وتستطيع توجيهه، بما قد يتوافق مع تكلُّم عليه فواز طرابلسي1 آصف بيّات2 على ثورات بلا ثوار. لكن لعل النموذج المرشد الثاوي في تفكير المثقفَين، الأميركي-الإيراني واللبناني، نموذج الثورة الاجتماعية والطبقة أو الطليعة ذات الفكر الثوري التي تقودها، أي ثورات بثوار، في حاجة إلى مراجعة، تأخذ بالاعتبار تدويل المنطقة، وهذا الشكل من «مكر التاريخ» حيث لا تحدث الثورة حيث تُنتظر، لكنها تحدث وتُغير كل شيء حولها. هذا فضلاً عن أنه كان هناك ثوار في الواقع، وبعدد غير قليل، لكن ليس منظمات ثورية (ارتُجل بعضها أثناء الصراع ولم تعش). ومما يدفع إلى مساءلة نموذج ثورات بثوار كذلك حقيقة أن الأمر لا يقتصر على سورية، ولا حتى على البلدان العربية. فقد شهد العقد الثاني من القرن العشرين أكبر موجات الاحتجاج الثوري في كل مكان من الكوكب تقريباً، ولم يكد يثمر أي منها تغيراً مهماً.3

فإذا أخذنا بالاعتبار أن الصدور عن تصور مسبق للثورة يجازف بأن تكون الذات الثورية معطاة سلفاً قبل الثورة ذاتها، ما يختزل الثورة إلى انقلاب، وما يؤول إلى أوضاع استبدادية في كل الأمثلة المعروفة، ومنها أمثلة ذكرها بيّات في سبعينيات القرن العشرين ومطلع الثمانينات، بما فيها الثورة الإيرانية. فإن لم تكن الفكرة الثورية موجودة مسبقاً، كان ثمة مجازفة في الاتجاه المعاكس، أن تكون الثورة هي كل ذاتية الثائرين، أي أن يكونوا كائنات منفعلة بما يحدث، ويفقدون كل ذاتية إذا فشلت الثورة، مثلما يبدو أنه حدث في سورية. السؤال هو لماذا تعذَّرَ انطلاق دينامية تعلُّم، تُثمر تَحكُّماً أفضل وتأثيراً أكبر على سير الأحداث نحو الغاية المأمولة؟ يُحيل الأمر إلى ضعف القوى الوطنية الثورية بأثر حَجْر سياسي مديد وتحطيم المنظمات العارضة في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، وكذلك عمليات نزع الوطنية السابقة للثورة، ثم بلا شك إلى ديناميات التجذّر والتطرّف والعسكرة والأسلمة التي حرضتها حرب النظام بعد الثورة.

القضية السورية

فشلت الثورة كتطلع إلى تغيير أساسي في البيئة السياسية السورية، وجرت عملية نزع شامل ومتعدد المستويات للوطنية من الدولة والمجتمع. ويشمل الانحلال أي قوى عامة يمكن أن تفكر وتعمل على نطاق وطني. الانحلال عاقبة متوقعة للفشل في حل المشكلة التي قامت الثورة لحلها: الحكم الأسدي. في واقع اليوم لدينا الحكم الأسدي وعدد غير قليل من الكوارث الأخرى. القضية السورية هي التصور الذي يحاول الإحاطة بهذه الأوضاع الكارثية من وجهة نظر العمل على معالجتها. والمحتوى الأول للقضية السورية هو التفكير في سورية كوحدة بعد أن وصلنا إلى احتلالات أجنبية متعددة وانقسام كياني وتبعيات سياسية متعددة، وتبعثُر سكاني.

وللقضية السورية مفردات مباشرة، يظهر للوهلة الأولى أنه يمكن التعبير عنها بلغة واضحة: خروج القوى الأجنبية الدولتية وغير الدولتية من الأراضي سورية كلها؛ عودة اللاجئين أو حقهم في العودة الآمنة إلى مناطقهم؛ توحيد سوريات الأمر الواقع الأربعة؛ والتغيير السياسي الذي يعطي السوريين بداية جديدة. لكن عدا أن أياً من هذه البنود يتجاوز قدرات السوريين الذي أُخرجوا من نطاق التأثير في شؤون بلدهم منذ انهيار الإطار الوطني للصراع، فإنه عند النظر عن قرب إلى هذه البنود، وبخاصة الأخيرَين، ترتسم تعقيدات هائلة، تتصل بالانقسامات الطائفية والقومية والجهوية من جهة، وبالأسس المغايرة لسورية جديدة أعدل بعض الشيء، لا تقوم على الاستثناء والإكراه والتعذيب، أو على الإنكار وعدم الاعتراف وعدم الاحترام، ولا تنهار مجدداً بعد سنوات أو عقود.

بيد أن النظر في هذه الأشياء بتمعُّن، وتطوير القدرات على تفكير يحيط بالشأن السوري من جوانبه المختلفة من جهة، ويعتني من جهة أخرى بتطوير أهليات أهل القضية على التعامل باحترام وإيجابية مع اختلافاتنا، هو محتوى القضية السورية. القضية السورية هي شغل علينا، عمل فكري وسياسي وأخلاقي، وروحي، من أصحاب القضية على أنفسهم، يتشكلون عبره في صورة ذوات فاعلة منظمة التفكير ومسؤولة الأفعال. وهو عملٌ يُنتظر منه وضوح أكبر على مستوى الأفكار والقيم، وصِيَغ تفاعل وتنظيم أكثر تماسكاً وقدرة على البقاء. كانت الثورة السورية من عمل الإرادة والانفعال، وقد خسرنا بفعل تناثُر إراداتنا وحِدّة انفعالاتنا وافتقارنا إلى قيادات مجربة تسيطر على هذه الانفعالات أو توجهها في مسارب بنّاءة. أما القضية السورية فمدارها هو العمل السياسي حين نفهم السياسة كفن، أي كحُسن تصرف ومهارة ودهاء واستغلال للفرص ومحاولة صنع الحظ الحسن، ثم السياسة كنضال، أي كجهود منسقة لنصرة القضية وتحقيق أهدافها. نحتاج كثيراً إلى السياسة كفن وإلى فناني السياسة، القادة الذين يجمعون بين المبدئية في الأهداف والمرونة في الوسائل والتكتيكات، وقبل كل شيء يتحلون بالاعتدال والاحترام، ويبثون الثقة والتبصر بين مواطنيهم. في جيل سابق جرى الربط بين السياسة كعلم (أو نظرية، أو عقيدة) والنضال الثوري. قد يكون الأنسب اليوم، ولعله كان كذلك بالأمس أيضاً، ربط النضال بالفن السياسي والمهارات السياسية. العقيدة السياسية أو المبدأ السياسي ليس شأناً يُستخف به، لكن تغييب الفن السياسي هو ما عانى منه التفكير الثوري أكثر من أي شيء آخر. وسيجري الكلام بعد قليل على المسألة السورية، وهي أقرب إلى السياسة كعلم.

بعد أن خسرنا الثورة السورية، يشكل بناء القضية السورية الاستئناف الأكثر جدية للتطلعات المحركة للثورة. الثورات تنجح وتفشل، ونحن فشلنا وتحطمنا، وبمفعول راجع صارت الثورة تُنكَر بالكلية ومن البداية. يتجاوز الأمر أن أعداء متنوعين هزمونا، إلى ما تقدم ذكره من تحلل الذات الثورية وخسارة معناها. وخسارة المعنى أقسى بكثير من الهزيمة أمام عدو مهما تكن ساحقة. بناء القضية السورية هو جهد لتدارُك خسارة المعنى، هو عمل على الذات وإعادة بناء قوى تحررية بعد الهزيمة والخسارة.

والوجه النظري الأبرز لبناء القضية السورية يتمثل في محاولة صوغ مفهومها أو تسميتها وتعريفها. ما هي قضيتنا؟ أحد أوجه عُسر الصراع السوري هو صعوبة تكثيفه في جملة أو جملتين، كأن نتكلم مثلاً على تحرر وطني أو نضال من أجل الاستقلال وتقرير المصير، أو ثورة ديمقراطية. يشمل صراعنا هذه الأوجه وغيرها، ما يسبغ عليه تعقيداً نادراً يضعف إمكانيات التماهي بنا. وفي المقالة التي أشير إليها غير مرة فوق، ما هي الثورة السورية؟ بدا لي أن محتوى القضية السورية يتمثل في المسألة الاجتماعية الجديدة التي تضيف إلى المسألة القديمة من «جهل وفقر ومرض» التمزق الاجتماعي الطائفي، والأشكال الجديدة من النزعة الرجعية المقاتلة، المتحكمة بالنساء بخاصة؛ ثم المسألة الوطنية الجديدة، التي هي شكل مفرطُ التعقيد من التحرر الوطني بفعل وجود أربع قوى احتلال، إثنان منهما بطلب من النظام، فضلاً عن الاحتلال الإسرائيلي القديم؛ وأخيراً المسألة السياسية القديمة الجديدة المتمثلة بانتقال سياسي باتجاه تعددي وقائم على المواطنة، لكن كذلك مع إعادة هيكلة للدولة باتجاهات لا مركزية.

لكن ربما نكثّف ذلك كله في فكرة البناء الوطني أو بناء الوطنية السورية بالنظر إلى النزع الشامل لوطنية الدولة والمجتمع. أي بناء الدولة والأمة، أو شعبِ المواطنين السوري. كان يجري الكلام على دول الاستقلال الناشئة في حقبة نزع الاستعمار بلغة البناء الوطني هذه، ومنها التعليم والبنى التحتية وتوحيد القوانين وعقلنة الإدارة والتصنيع والرعاية الصحية ومحاربة الفقر إلخ. وفي هذا ما يقول إن سنوات ما بعد الاستقلال، وهي تغطي أعمار معظم الأحياء منا، تكاد تكون مهدورة. يمكنها ألا تكون كذلك فقط إذا استطعنا أن نجعل من الأوضاع الكارثية الحالية منطلقاً لأوضاع أفضل، وذات قابلية ذاتية للإصلاح.

أما الوجه العملي الأبرز لبناء القضية السورية اليوم فربما يتمثل في توحيد جبهة سياسية أو التقريب بين قوى سياسية مختلفة على أسس من الاحترام والقبول بالتعددية الاجتماعية والكيانية لسورية، وبالتالي وجوب التعدد السياسي وما يتضمنه من اختلافات وفوارق. لقد تحكمت نزعة الانقسام في سياسات السوريين المعارضين، فكانوا عملياً سنداً للنظام الذي عمل على تغذية أزمة ثقة وطنية متعددة المستويات تُضعف الجميع أمامه، وتجعل منه حلاً لانقسامات مستحكمة. هذا الميراث مما يتعين تجاوزه من قبل أي قيادات جديدة.

وفي الوقت نفسه لا يبدو أن هناك شيئاً يمكن الاستفادة منه من سياسة التحالفات مثلما رأينا تجاربها قبل الثورة السورية وبعدها. إنها سياسة بلا سياسة تقريباً، لا تقوم على أسس فكرية وقيمية وحقوقية واضحة، وتترك مجالاً واسعاً للتلاعب وسوء النية، وكان بين قواها قدرٌ غير قليل من قلة الاحترام، ونتائجها محبطة دون استثناء. ولا يعود ذلك حصراً إلى الفوارق الإيديولوجية والعقدية بين تنظيمات مختلفة، وبالتحديد بين «علمانيين» و«إسلاميين». فسياسة التحالفات تقوم في كل وقت على تحييد الفوارق غير السياسية، سواء دينية أو إثنية أو جهوية. المشكلة هي في غياب أسس واضحة للتحالفات تُعلَن للجمهور، وتضمن المساواة والشرعية المتكافئة للقوى المختلفة، والاعتراف المتبادل بينها، وتعمل على مخاطبة الشعب وتثقيفه سياسياً كنموذج لما يجري التطلع إليه من تغيير. لم يحدث شيء من ذلك، وكان هذا من بين ما أفضى إلى خسارة المعنى، مُعزِّزاً أثر الهزيمة أمام العدو. الانحلال الراهن هو نتاج الخسارة الذاتية والهزيمة الموضوعية.

ونبدو في الواقع كأننا فقدنا المَلَكة السياسية، القدرة على التفاوض والتسويات والحلول الوسط والتنازلات المتبادلة، أي الحلول السياسية للمشكلات الاجتماعية والوطنية. لم تشتهر أجيال السوريين يوماً بقوة هذه المَلَكة، لكن العقائد القومية والشيوعية والإسلامية قوَّضتها تماماً، ومعها قوضت تَصوُّرَ السياسة كفن.

تأخذ العلاقة بين الثورة والقضية شكلاً تعاقبياً في سورية، خلافاً لما كان الحال في الشأن الفلسطيني. حيث بنيت القضية والكفاح المسلح، والمنظمة/ المنظمات، في العملية نفسها، قبيل هزيمة 1967 وبُعيدها. هزيمة منظمة التحرير عام 1982 قادت إلى تحول الكفاح المسلح إلى قوى أخرى، وإلى تحول مهم في تصور القضية باتجاه الأسلمة. لكن تجربة ما بعد 1982، ثم ما بعد أوسلو، وعلى الأرجح ما بعد طوفان الأقصى، تزكي تصور القضية أقرب إلى ما ظهر في الستينيات والسبعينيات، قضية تحرر وطني، بروحية علمانية غير مذهبية، لا تندرج في منطق الصراع الوجودي غير السياسي، أي العدمي، فلا تستبعد التسويات مبدئياً. على أن تجارب الفلسطينيين في هذا المجال، التسويات، لا تقل سوءاً من حيث هشاشة الأسس وغياب الضمانات عن تجارب السوريين التحالفية، وعدو الفلسطينيين المدعوم من أقوياء العالم لم يشعر يوماً بالحاجة إلى تقديم أي تنازل سياسي مهم لهم. ولقد أظهر النظام الأسدي رفضاً للحلول السياسية والتفاوض الحقيقي يصمد بقوة للمقارنة مع إسرائيل. وأساس ذلك واحد أيضاً: الحصانة وعدم الخوف من العواقب، بل ضمان أمانهما من جانب الأقوياء.

على أن التجربة الفلسطينية تطرح سؤالاً أصعب على السوريين يتصل ببناء المنظمة/ المنظمات. الفارق الكبير أن المنظمات الفلسطينية ظهرت في سياق صعود قومي عربي وتحرري عالم ثالثي، وفي أجواء الحرب الباردة التي كفَّت بقدر مهم أيدي القوى الاستعمارية السابقة، فيما نحن في ظل مركب من الهزيمة والخسارة بدون سند وعلى خلفية تعفن عالمي منتشر. أميركا التي عندنا تجد صعوبة في قيادة نفسها، ثم أكثر وأكثر في قيادة العالم، فلا هي بمثال طيب ولا هي قبل ذلك صديق. وروسيا التي عندنا ليست مثالاً ولا صديقاً بدورها. ومثل ذلك إيران وتركيا.

هذا وضع معضل، وهو من بين ما يدفع إلى التفكير في سورية كمسألة.

المسألة السورية 

بفعل ما تقدم، تتحول سورية من أزمة حادة إلى أزمة مزمنة، إذا أمكنَ الجمع بين هاتين الكلمتين، أو أفضل إلى مسألة سورية. المسائل هي أوضاع معقدة، مديدة، متعددة الفاعلين، صعبة المعالجة، قد تدوم أجيالاً، ولا تنحلُّ إلا بتغيُّر تاريخي وكبير في النظام الدولي. مثالا المسألة الشرقية والمسألة اليهودية ناطقان جداً في هذا الشأن. وكذلك المسألة الفلسطينية منذ قيام إسرائيل.

حين نتكلم على مسألة سورية، نفكر في سجلّ مختلف عمّا حين نتكلم على قضية سورية. المسألة السورية سؤال مطروح للتفكير والتحليل والمعرفة، وليس للعمل السياسي والنضال السياسي. وبينما القضية السورية هي جهود السوريين لبناء تصور ذي طاقة جامعة حول ما يريدون، فإن المسألة السورية موضوع للدراسة، يطرح نفسه على سوريين وغير سوريين من حيث المبدأ، وإن كان السوريون مهيئين مبدئياً لنظر أخصب وأغنى بالدقائق فيه من غيرهم.

وبدلالة القوى العديدة المنخرطة مباشرة في الصراع السوري، فإن المسألة السورية مسألة عالمية، ليست حصراً مسألة السوريين. تَعدُّد القوى الدولية أصلاً هو من جملة ما يجعلها مسألة، مشكلة مزمنة معقدة تتجاوز بلداً بعينه. أو لنقل إن ما يجعل من سورية مسألة (تعدد الفاعلين) هو ذاته ما يجعل منها عالمية. والمسائل كلها على أي حال تبدو عابرة للدول والأقاليم بقدر عبورها للعقود والأجيال. هنا أيضاً يمكن استحضار المسألة اليهودية والمسألة الشرقية في زمنٍ سبق، واليوم المسألة الإسلامية (مركب من الإسلامية والإسلاموفوبيا)، والمسألة الفلسطينية هي مسائل متعدية زمنياً ومكانياً.

ومما يسهم في تعقيد وإزمان المسألة السورية تَراكُب مشكلات متعددة فيها. مشكلة طائفية تتعلق بالتآلفات والمنازعات بين جماعات دينية ومذهبية سورية: علويون وسنيون، وشيعة يزدادون نفوذاً عبر الاختراق الإيراني الواسع للدولة والمجتمع السوريين، ومسيحيون ودروز وإسماعيليون؛ ومشكلة دينية تتصل بتكوين القوى والعقائد الدينية وما يتصل بها من مشكلات عديدة تفيض على سورية وتتصل بأحوال الإسلام (السني بخاصة)؛ ومشكلة إثنية تتصل بصورة خاصة بالكرد السوريين الذين حازوا وزناً مهماً عبر محاربة داعش، وصاروا حَمَلَة سلاح مؤثرين لأول مرة في تاريخ سورية، ويرعاهم راع دولي قوي: الولايات المتحدة؛ ثم مشكلة جيوسياسية تحيل إلى إقليم الشرق الأوسط والقضايا الفلسطينية والكردية، وما يتصل بتخلخل المجال العربي في ظل وجود ثلاث قوى قومية توسعية متعصبة، إسرائيل وإيران وتركيا.

من أوجه متعددة ظهرت سورية في سنوات الصراع الطويلة كعالم مُصغَّر، فيها كثير من العالم وقواه الدولية والإقليمية الكبرى، هذا بينما تناثر السوريون في العالم، في 127 دولة منه بحسب تقرير لهيومان رايتس ووتش في شباط 2022. في الوقت نفسه وعبر تَعمُّم عالمي للشرط السوري، أعني شرط اللابديل، يبدو العالم سورية مكبرة، تعيش مثلما عاشت سوريتنا في الحقبة الأسدية في حاضر مؤبد. هذا نذير إزمان شديد، وإن يكن من وجه آخر بالغ الخصوبة للمعرفة في شؤون متعددة، سياسية ودينية واجتماعية وأنثروبولوجية وما يتصل بالعلاقات الدولية.

ننظر إلى صراعنا من وجهة نظر الواجب بوصفنا مشتغلين بالشؤون العامة كقضية سورية، نعمل من أجلها بأدواتنا المختلفة في كل وقت، ولعلّنا نحقق شكلاً من المواطنة عبر ذلك، مواطنة الواجب وليس الحقوق. لكن منظور المسألة السورية يقتضي مسافة من الصراع والنظر إلى أمداء تاريخية أطول. فإذا أخذنا بالاعتبار أن المجتمع السوري احتاج بعد الموجة الأولى من الصراع السوري في الحقبة الأسدية، أعني بين 1979 و1982، إلى ثلاثين عاماً كي ينتفض من جديد، فإن الحال اليوم أعقد بما لا يقاس. ليس فقط أن الموجة الأولى أصغر بكثير من الموجة الحالية التي بدأت في آذار 2011، ولكنّ تَعدُّد الفاعلين الكبار في الداخل السوري، وأقاصي الآلام والأفاعيل والأفكار والتمزقات، والبطولات والنذالات، التي طال أثرها ملايين السوريين، كلهم بالفعل، قد تدفع المرء إلى القول إن ما بقي من هذا القرن ربما لا يكاد يكفي لمعالجة الملفات الكبيرة، السياسية والدينية والطائفية والإثنية والجيوسياسية، التي تواجه السوريين، وتثير سؤالاً عن فرص الكيان السوري في البقاء. وقد يكون الوضع المأساوي الحالي استراتيجية النافذين لتجنب الاحتجاج والثورة بالنظر إلى أن أياً من المشكلات التي تسببت بالثورة السورية لم تُحَلّ، ودواعي التغيير قائمة لا تزال. ورفض النظام العودة الآمنة للاجئين مؤشر في هذا الاتجاه.

ولا يصدر تقدير إزمان المسألة السورية إلى ما قد يتجاوز ما بقي من هذا القرن عن تشاؤم، بل هو محاولة للصحو، وتجنب تفاؤل رخيص ينقلب إلى نضال من أجل التشاؤم حين يصطدم بالواقع. وعلى أي حال، ليس هناك شيء في تصور المسألة يحول دون العمل من أجل القضية هنا والآن. هذه الأخيرة مسألة نضال سياسي وفن سياسي كما سبق القول، والمسألة السورية بالمقابل مسألة معرفة على مستويات متعددة. نعمل من أجل القضية كأن الأمر لا يتعلق بمسألة معضلة مزمنة ومعقدة، ونشتغل على المسألة كأنما القضية لا تضغط علينا طوال الوقت. نحتاج إلى هذه القدرة التي تجمع البُعدين، ونفترض أنهما مما يلزم لظهور قيادات تاريخية تصنع فروقاً كبيرة في التاريخ. لم توجد لدينا قيادات كهذه في الزمن المعاصر، تجمع بين النضال والفن السياسي والمعرفة السياسية والتاريخية، لكنها يمكن أن توجد. لقد وُجِدت لإسرائيل، في زمن التأسيس بخاصة. وإذا كان يبدو أن مستوى القيادات الإسرائيلية في انحدار منذ التسعينيات على الأقل، فإن مستوى القيادات العربية في انحدار مستمر. وجذرُ ذلك ظاهر: امحاء الفرق بين الحُكم والمِلْك عندنا، وثباتهما في إسرائيل التي هي ديمقراطية بالفعل لليهود.

وبالنظر إلى تاريخ سورية ما بعد الاستقلال فإن جذر المسألة السورية قد يتمثل في الفشل في بناء الأمة في سورية، والدولة كقوة البناء الرئيسية. أخذ هذا الفشل وقتها شكل انقلابات عسكرية والاندراج في تجاذبات إقليمية كانت ذات أثر ممزق على كيان البلد الفتي ونخبه المتواضعة في الفترة بين الاستقلال وعام 1963، وبلغت الأوج في الوحدة السورية المصرية التي كانت هروباً من سورية وسياستها إلى حضن أب كبير، حلّال لمشكلات الأولاد المتنازعين. ثم لم تلبث أن أخذت شكل هروب من الأب أو انقلاب عليه. كانت تلك حقبة «الصراع على سورية» التي درسها باتريك سيل في كتاب له بهذا العنوان لا يزال مهماً. بعد الانقلابات البعثية، وبخاصة الانقلاب الذي لا انقلاب بعده، أعني انقلاب حافظ الأسد، جرى إلغاء المنازعات السياسية ليس من الجيش وحده ولا من حزب البعث وحده، وإنما من المجتمع كلياً. على أن ذلك لم يتحقق إلا بإلغاء السياسة ذاتها، بما في ذلك من النظام ذاته، وإحلال عبادة الرئيس محلها كنقطة إجماع وطني وحيدة. وهو ما أسَّسَ عبر عقود ثلاثة إلى خصخصة الدولة سُلالياً في أكبر ردة اجتماعية وحقوقية وثقافية في تاريخ سورية منذ ما قبل ظهور كيانها الحديث.

باتريك سيل نفسه خصص كتاباً أكبر لحقبة الثلاثين عاماً اسماه الأسد والصراع على الشرق الأوسط. وما يقوله عن حافظ الأسد بقدر من الإعجاب يتخلص في تَحوُّل سورية من ملعب إلى لاعب في الإقليم. ولا يشغل باله أن هذا جرى بإغلاق تام للملعب السياسي وتحويل السياسة في سورية إلى لعبة أو «عرض الرجل الواحد». وما جعل ذلك ممكناً هو تطييفٌ واسع للركيزة الأمنية للنظام، أجهزة المخابرات والتشكيلات العسكرية ذات الوظيفة الأمنية. ووصفُ نظام حافظ الأسد بالطائفية هو مجرد قياس أرسطي: فإذا كان النظام أمنياً أساساً، وهياكله الأمنية طائفية، فإنه طائفي هو ذاته. وفي مجتمع يضج بتعدده المتعدد المستويات، هذه وصفة للانفجار، وهو ما سيحدث عام 2011 وسيأخذ بعد حين شكل النظام، العنفي والطائفي، وتعود سورية ملعباً لوحوش صغيرة وكبيرة، دول وميليشيات، ما كانت في الحال ولا في البال. دخلنا بفعل مواجهة الثورة بالحرب في شكل مغاير من ثنائية الاضطراب السياسي والتمزُّق الاجتماع والنخبوي، تمثل في ما سبق ذكره من انقسام سورية إلى أربع سوريات، واقتحام الخارج الإقليمي والدولي للداخل السوري. هنا تكتمل دورة الفشل، ويظهر أن «الصراع على الشرق الأوسط» ليس على قطيعة مع «الصراع على سورية»، بل هو استمرار مغاير له، تجسد وقتياً في فوز قوة داخلية في جولة من الصراع دامت أربعين عاماً: 1970-2011. الداخلية هنا تعبير وصفي، بلا دلالة سياسية لقوة بناء وطني داخلية المنشأ، تعمل على بناء الدولة والأمة، وتتوافق مصالحها مع تطور هذا البناء.

والقصد أن للمسألة السورية ما قبل تاريخ طويل، يسبق بعقود عام 2011، ولعله يغطي كامل تاريخ البلد الذي أخذ يظهر إلى الوجود عام 1918، عبر حل غربي للمسألة الشرقية، قبل أن يعاني من حل غربي ودولي للمسألة اليهودية على حساب فلسطين وشعبها، وقيام دولة توسعية في الجوار السوري القريب.

وفي هذا الشأن، كانت الفكرة القومية العربية قد أسهمت في إضعاف الحسّ بالضرورة الحيوية لبناء الدولة الوطنية عبر اعتبار ذلك عائقاً أمام الوحدة العربية. ظل هذا التصور حياً حتى ثمانينات القرن العشرين، يشهد عليه كتاب المرحوم جورج طرابيشي الدولة القطرية والنظرية القومية (صدر عام 1982).

هل تقبل سورية أن تكون دولة؟ أن تقوم علاقة إيجابية بين الدولة كمُركَّب مؤسسي للحكم وبين الدولة ككيان وشعب وأرض؟ هذا سؤال يثيره ما يبدو من صعوبة حكم سورية طوال ما يقترب اليوم من ثمانين عاماً بعد استقلالها، ولا ينبغي القفز نحو إجابات سهلة عليه. وهو على أي حال من بين ما يتعين لتصور المسألة السورية أن يفكر به ويُجيب عليه.

من أجل تركيب

واحدة من مشكلاتنا الكبيرة، وربما فيها أكثر من غيرها تتجسد خسارتنا، هي افتقارنا الكلي إلى تشكيل (تيار، منظمة، حزب، نخبة…) يوفر طرحاً تركيبياً للقضية السورية يتجاوز الطروح الجزئية، ويحوز طاقة كامنة على مخاطبة عموم السوريين، أي على الهيمنة. فإذا تكلمنا بلغة هيغلية، فإن لدينا أطروحات ونقائض، ولكن ليس لدينا تركيبة تستوعبها وتتجاوزها. النظام أطروحة جزئية لأنه والغٌ في دم محكوميه، لأنه دعا قوى أجنبية لحمايته، لبنيته الأمنية الطائفية، ولأنه قبل كل شيء غير سياسي، فلم يعد يستطيع العمل يوماً من أجل حلول سياسية للمشكلات الوطنية. وهو لذلك فشل طوال أكثر من نصف قرن في أن يقود سورية إلى الأمام. الإسلاميون أطروحة جزئية مضادة، نقيضة، لأن تمثيلهم ينحصر ضمن قطاع من السوريين (المسلمين السنيين)، لأنهم يستبعدون سوريين كثيرين، بمن فيهم غير قليل من قطاع السوريين الذي يجدون بينهم قواعدهم، وهم ليسوا تركيباً حتى ضمن هذا القطاع بالنظر إلى انقساماتهم من جهة وتبعياتهم لقوى خارجية اليوم من جهة أخرى. قسد، التي يشكل تنظيم الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال الكردستاني متنها، ليست تركيباً لجزئيةِ ما تُمثل من مصالح، ولِلعبها على حبال كثيرة، ثم لارتباطها بدورها بقوى خارجية متعددة. موقع التفكير بسورية موحدة، تستوعب الأطروحات الجزئية، وما يبطنها من مخاوف وتطلعات مشروعة، ولكن تتجاوزها في تركيب وطني عادل ومتحرر، شاغرٌ اليوم، ولا يبدو أن هناك إدراكاً كافياً للحاجة إليه. هذا الموقع هو استئناف في شروط اليوم للفكرة الوطنية الديمقراطية التي تطلعت منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين إلى دمقرطة سورية الموحدة. يحتاج الأمر اليوم إلى شُغل فكري وسياسي وحقوقي أكبر على الأوجه المختلفة للقضية السورية والأبعاد المختلفة للمسألة السورية.

والكلام على تركيب يعني الإجابة الواضحة على ثلاث مشكلات فرعية، تشكل الوجه الداخلي من المسألة السورية، «التخرُّجات الداخلية» القابلة لتدخُّلات خارجية، والتي تجعل من نزع الوطنية بنية قارّة للتجدد وليس وضعاً استثنائياً طارئاً. يمكن تسميتها بتبسيط فظ المشكلة العلوية والمشكلة السنّية والمشكلة الكردية. كيف يمكن تشكيل «شعب» من هذه المجموعات الثلاث، أو تطوير نموذج سياسي غير تَحاصُصي يجمعها معاً، ويقوم على قاعدة من المساواة والاحترام؟ هل التركيب بين هذه الأطروحات الثلاث ممكن؟ لا ينبغي أن يكون غير ممكن، وأول إمكانه هو التسليم بأنها مجرد أطروحات. فليس السنّيون هم الأمة على ما يوهم إيديولوجيوهم أنفسهم وغيرهم به، ولا هم العام الجامع الذي يمكن أن تقوم سورية على أساسه مثلما يفترض الإسلاميون، بمن فيهم المجلس الإسلامي السوري. ولا تحجب السيطرة المسلحة على الدولة الصفة الخاصة للحكم الأسدي، بل لعل الانطلاق من هذه الصفة هو ما يساعد على رؤية العلويين ومخاوفهم وتطلعاتهم المشروعة. ولا توفر قسد و«أخوة الشعوب» و«فكر أوجلان» حجاباً للتكوين الخصوصي لهذه القوة التي تحجب بدورها قضية كردية عادلة لا بد من مخاطبتها على أساس من المساواة والاحترام. هناك غير قليل من الغش والتحايل بين السوريين، منشأه تجنب الإقرار بتكوين تعددي للمجتمع السوري، وضرورة أن يعكس نظامه السياسي هذا التكوين.

ولا ننسى بعد ذلك أن سورية ليست سنّيين وعلويين وكرداً، وإن كان من هؤلاء أساساً حملةُ السلاح في سنوات ما بعد الثورة. الجماعات السورية الأخرى ليست أقل شأناً أو جدارة بالاحترام، وبين المسيحيين والدروز على أي حال من هم من بين حملة السلاح. هذه الروابط الأهلية هي اليوم، وكان لديها استعداد خاص دوماً لأن تكون أطرا اجتماعيا للانفعالات والأهواء العدائية، التعب والكيد والكره والشماتة، وليس بحال لانفعالات إيجابية، ومن باب أولى لمسالك وأفكار عقلانية.

هل نستطيع الدفاع عن تركيب سوري يتجاوز الأطروحات الفئوية دون أن ينحدر إلى نظام محاصصة، هو معادل سياسي لانحطاط التركيب الديناميكي إلى توفيقية جامدة؟ الإجابة على هذا السؤال عملية وليست نظرية، إنها المنظمات والأحزاب والقوى السياسية التي نبنيها كوسيط بين الدولة السورية العامة والمجتمع السوري المتعدد، الذي أنتج عبر تاريخه غير الطويل تيارات فكرية وسياسية، وعقائد وأنماط عيش منقطعة الصلة بما هو أهلي وموروث. التركيب الوطني يمثل في هؤلاء، في المنظمات والأحزاب التجاوزية، غير الطائفية وغير الإثنية، التي لا تفكر في غير المحاصصات. إجرائياً، ربما يتعين التفكير في تمثيل مزدوج، «وطني» و«أهلي»، الأخير يلبي حاجة الجماعات الأهلية إلى تعبيرات سياسية قريبة منها ومألوفة لها، والأول يلبي الحاجة إلى تركيب وطني متجاوز للأهلي. والخشية بالطبع هي نَخرُ التمثيل الوطني لمصلحة الأهلي، ما يوجب في المنطلق ترتيبات دستورية وقانونية ومؤسسية للحيلولة دون ذلك.

والغرض من الكلام الفظّ بعض الشيء على هذه الشؤون هو مواجهة الواقع الصعب بتناقضاته المستعصية، والامتناع عن مجاملة الذات وبثِّ شعور بالسهولة، يتوافق دائماً حين يصطدم بالواقع مع البحث عن أكباش فداء، من شأن التضحية بهم أن تحل كل المشكلات. هذا ليس باطلاً فقط، وإنما هو وهم مُكلِف، وما قد يتوافق معه من سياسات إجرامي، على ما يشهد واقع الحال. ثم إن الغرض من كل الكلام على التركيب هو الانطلاق من واقع التناقض والصراع كشروط للسياسة مفهوماً وممارسة. لا نُحيي الفكرة الديمقراطية بغير ذلك.

التركيب الوطني المأمول هو مُركَّب قوى سياسية تُدرك تَجزّؤ الواقع وتعمل على تجاوزه بالمعرفة والفن والنضال، تنظر في هذه المشكلات بعيون تجمع بين المعرفة السياسية والتاريخية، وحسّ العدالة، والمهارة والفن السياسي.

ولسنا نبدأ من الصفر في التطلع إلى تركيب وطني سوري. فما تَقدَّمَ قوله عن شغور موقع التركيب على مستوى المنظمات والتيارات لا يصح على مستوى الأفراد. ليسوا قلة الناشطين والمثقفين والأكاديميين والفنانين السوريون، النساء والرجال، الذين يفكرون في الشأن السوري على أرضية أقرب إلى التركيب المأمول. وأغلب هؤلاء هم ممن يرفضون اختزال تعريفهم إلى أي من جماعات المنبت المشار إليها أو غيرها. يتعين على منظماتنا أن تشبهنا كمتطلّعين إلى المستقبل لا أن تشبه مجتمعنا مثلما ورثناه عن الماضي.

استطراد في الراهن

شهدنا خلال 13 عاماً ونحو سبعة أشهر الكثير جداً مما يُشيّبُ القلوب وليس الرؤوس وحدها. شهدنا ثورة أخفقت، ومجتمعاً تمزق، وبلداً فقد شكله، وسكاناً تناثروا في العالم، ونظاماً يجمع بين التفاهة والدموية يبقى بحراب الأجانب. ورغم ذلك، هناك صراع مستمر، ربما بحدة أقل في السنوات الأخيرة، لكنه لا يتوقف. لا يزال الكثير يحدث، لكنه لم يعد حدثاً، لم يعد يحمل جدة وتغييراً. هناك فقط ضروب من المعاناة الإنسانية الرهيبة مستمرة، بخاصة في مخيمات اللاجئين في الشمال، وأكثر منهم اليوم اللاجئون في لبنان الذي صار هو نفسه منتجاً للاجئين بأعداد كبيرة اليوم. كم هو ساخر وفاجع في آنٍ أن يضطر لاجئون سوريون إلى أن ينجوا بحياتهم إلى وطنهم القريب الذي يحكمه النظام الذي اضطروا إلى اللجوء بسببه، والذي قد يفقدون حياتهم على يديه! هذا يكفي لإعطاء فكرة عن هول شرطنا ومأساويته، ثم للتعبير صراحة عن الشك في قدرتنا على قول كلام معقول في شروط غير معقولة، بل هي الجنون بعينه.

جنون محدد، جنون الدم، «الاستدماء»، نشوة الدم الوحشية التي تنغلق عليها وتغلق هي على نفسها دائرة الدم. إسرائيل والحكم الأسدي وحربيو الطوائف في لبنان وسورية والمشرق مجانين دم، ولا عقل ولا ضمير يلوحان في الأفق.

مع ذلك، ليس لنا غير محاولة قول كلام معقول في شروط الجنون. لأنه «إذا جن ربْعك، غير عقلك ما ينفعك»، بتلاعب صغير، لكن جذري، بالتعبير الشعبي الشائع.

ومن الكلام المعقول فيما نرى أن نحاول بناء القضية السورية كاستئناف مغاير للثورة المقتولة، وكاستعادة للمقاصد الأولى، الوطنية والديمقراطية والتحررية. فكرة القضية تُعيد توحيد ما تَمزَّقَ بفعل صراع عنيف مديد. نفكر في قضية سورية واحدة من وراء تَعدُّد السوريات وتناثُرنا البركاني في كل اتجاه.

وإذ ندرك هول ما نحن فيه من أقاصي التجربة الإنسانية، ومن استدماء وجنون، ومن ذاكرات مرضوضة ومسمومة، ومن مخيلات إبادية متمفصلة مع روابط أهلية مُنشَّطة، ومن أعماق دينية وإثنية ملوثة، من تعدد في الفاعلين المغرضين، الإقليميين والدوليين، لا نستطيع أن نتجنب التفكير بأن بلدنا التعيس، كـ«عظمة بين أسنان كلب» على ما قال شاعرنا الذي رحل شاباً، بل الذي يتناوشه قطيع من الكلاب المسعورة، هو عنوان لمسألة معقدة، طويلة، أجيالية، ومثلها يغلب ألا تُحَلَّ في حياة من خبروا أشد وطأتها. ليس في هذا ما يبهج القلب، لكننا والبهجة لا ننتمي إلى عالم واحد. نحاول أن نقول ما قد يجده قارئ مهتم كلاماً معقولاً رغم الغضب. كلاماً لا يخدع على الأقل، وإن بثمن أن لا «نربي الأمل»، على ما قال شاعر فلسطين.

ثم أننا نلزم أنفسنا بأن نجمع بقدر المستطاع لا أن نُفرِّق، بأن نحترم ونقدر لا أن نزدري ونكره ونتشفّى، وبأن نسعى وراء ما يتّسع ويستوعب لا ما يُضيق ويطرد. وأن نفعل ذلك بما نستطيع من إحساس وفهم.

والمستطاع قليل في شروط الإبادة التي تميل إلى أن تعم المشرق، سورية منذ سنوات طوال، وغزة وفلسطين كلها منذ سنة، ولبنان منذ أسابيع. نحن في صف الخاسرين ومنهم، حتى وإن لم نَعُد بينهم للأسف. وليتهنّا من يريد أن يتصور نفسه منتصراً بسلاح وتخطيط إيران أو إسرائيل أو أميركا أو روسيا، من يعتقل ويعذب ويقتل ويغتال ليحكم.

المصدر: الثورة السورية، القضية السورية، المسألة السورية: بحثاً عن تركيب