
سوريا بعد سقوط نظام الأسد: تحديات الانتقال السياسي وبناء جسم انتقالي شامل
بعد سقوط نظام بشار الأسد، تجد سوريا نفسها في مفترق طرق حاسم، حيث تواجه البلاد مرحلة حساسة تتطلب جهوداً مكثفة لتحقيق الاستقرار وبناء جسم سياسي انتقالي قادر على إعادة بناء الدولة. سقوط الأسد لم يكن نهاية للصراع، بل بداية لمرحلة جديدة من التنافس السياسي بين الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية، في ظل غياب سلطة قوية وتوزع السيطرة على الأرض بين قوى متعددة و وجود العديد من إشارات الاستفهام على السلطة الموجودة في القصر الجمهوري.
المشهد السياسي والدبلوماسي: سباق لإعادة رسم الخريطة السياسية
مع انهيار النظام السابق وسقوطه، تسارعت التحركات الدبلوماسية العربية والدولية باتجاه دمشق، حيث تسعى الدول الفاعلة لتقييم الوضع ومحاولة فرض ترتيبات انتقالية تتماشى مع مصالحها. إلا أن هذه التحركات، رغم زخمها، لا تزال تفتقر إلى رؤية موحدة بشأن مستقبل سوريا وآلية مساعدة ناسها، ما يعمق حالة الجمود السياسي ويفتح المجال أمام استمرار الانقسام الداخلي.
توافدت الوفود العربية إلى دمشق في محاولة لفهم طبيعة السلطة الموجودة في دمشق، ضمن ترتيبات تحمي المصالح الإقليمية، خاصة فيما يتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني والتركي المتزايدين. ركزت اللقاءات على قضايا عامة وعلى الأغلب بعض القضايا الأمنية، إلا أن غياب التوافق العربي بشأن شكل الحكم الانتقالي الجديد وتأثير القوى الإقليمية يُبطئ أي محاولة لفهم طبيعة العلاقات في المرحلة المقبلة.
الولايات المتحدة من جانبها، حافظت على نهج “الاحتواء دون الانخراط الكامل”، حيث استمرت في دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شمال شرق البلاد، مع التأكيد على تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة. ورغم أهمية الدور الأمريكي، فإن سياستها لا تزال تقتصر على التنسيق الأمني، دون أي تحرك سياسي جاد نحو دعم جسم سياسي انتقالي متكامل و كان اللقاء مختلفا عن غيره من اللقاءات مع غياب الصور و اي بيان مشترك مع إلغاء للمؤتمر الصحفي الذي كان من المفترض أن يُعقد بعد الاجتماع.
هذه الوفود، في معظمها، جاءت لتقييم الوضع بعد سقوط الأسد، لكنها لم تقدم حتى الآن حلولاً واضحة أو التزامات فعلية لدعم المرحلة الانتقالية.
التدخل التركي: عقبة أمام استقرار سوريا ما بعد الأسد
في الوقت الذي يترقب فيه السوريون مستقبلاً جديداً، تستمر تركيا في تعزيز وجودها العسكري شمال سوريا تحت ذريعة حماية أمنها القومي من حزب العمال الكردستاني (PKK) وقسد. سقوط النظام السابق لم يوقف العمليات العسكرية التركية، بل زادت حدتها مع محاولة أنقرة فرض وقائع جديدة على الأرض، من خلال إنشاء منطقة تديرها القوات التركية والفصائل المتحالفة معها.
الخطر التركي لا يتوقف عند قسد ككيان عسكري، بل يشكل تهديداً مباشراً للمواطنين السوريين من مختلف المكونات العرقية والدينية في شمال وشرق سوريا. استمرار استهداف المدنيين والبنية التحتية يزيد من تعقيد المشهد، ما يعزز مخاوف من تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ دائمة.
إدارة ملف السلاح بعد سقوط الأسد يجب أن يتم ضمن رؤية سورية شاملة، بعيداً عن تدخل القوى الإقليمية والدولية. الحل لا يمكن أن يكون عبر فرض ترتيبات دولية أو إقليمية، بل عبر:
1. إطلاق حوار وطني سوري-سوري يهدف إلى إيجاد حلول عادلة لمسألة السلاح، بما يضمن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
2. دمج القوات المحلية، بما في ذلك قسد، في مؤسسات الدولة الجديدة، بعد إعادة تأهيلها وهيكلتها بما ينسجم مع مصلحة الوطن.
3. رفض تحويل ملف السلاح إلى ورقة مساومة دولية، حيث يجب أن يتم التعامل مع هذا الملف داخلياً، وبقيادة وطنية سورية.
المصالحة الوطنية: حجر الأساس لبناء سوريا جديدة
مع سقوط النظام، أصبحت الحاجة إلى مصالحة وطنية شاملة أمراً لا غنى عنه لضمان استقرار المرحلة الانتقالية ومنع تكرار الصراعات الداخلية. التحدي الأكبر الذي يواجه سوريا الآن هو كيفية تجاوز إرث الحرب والانقسامات الطائفية والعرقية والسياسية.
تجربة جنوب أفريقيا في إنهاء الفصل العنصري تقدم درساً مهماً لسوريا، حيث يمكن تبني نموذج مشابه يقوم على:
• إنشاء “لجنة المصالحة والحقيقة”، والتي تعمل على كشف الانتهاكات وتوثيقها من جميع الأطراف، مع التركيز على العدالة الانتقالية وليس الانتقام.
• إطلاق حوار وطني شامل يضم كافة الأطراف السورية، دون إقصاء لأي طرف، لضمان مشاركة الجميع في بناء مستقبل مشترك.
• إعادة دمج المقاتلين السابقين في المجتمع، من خلال برامج إعادة تأهيل وتدريب، ما يحولهم إلى قوة داعمة للاستقرار بدلاً من عناصر معرقلة للانتقال السياسي.
المصالحة يجب أن تُقرن بمشاريع تنموية، وبرامج اقتصادية تهدف إلى إعادة تأهيل المناطق المتضررة، وإعادة اللاجئين السوريين إلى وطنهم بأمان.
بناء جسم انتقالي شامل
لضمان نجاح الانتقال السياسي، يجب تشكيل جسم سياسي انتقالي يمثل جميع السوريين بمختلف أطيافهم.
• يتطلب هذا الجسم مشاركة شخصيات من المعارضة والمجتمع المدني، إلى جانب قادة عسكريين سابقين بعد تأهيلهم، لضمان التمثيل المتوازن.
• من مهام هذا الجسم الإشراف على صياغة دستور جديد، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف دولي، فضلاً عن دمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد.
خطة العمل نحو مستقبل سوريا
١- وقف العمليات العسكرية وفرض تهدئة شاملة، من خلال ضغط دولي على تركيا وإيران لوقف تدخلاتهما المباشرة في سوريا.
٢- إطلاق مصالحة وطنية شاملة، تستند إلى العدالة الانتقالية وبرامج إعادة التأهيل.
٣- تشكيل جسم انتقالي، برعاية الأمم المتحدة والجامعة العربية، لضمان شمولية التمثيل.
٤- إعادة الإعمار، بالتعاون مع الجهات الدولية والإقليمية، وربط مشاريع إعادة الإعمار بالتقدم في المسار السياسي والمصالحة الوطنية.
الخلاصة
سقوط نظام بشار الأسد فتح الباب أمام مرحلة جديدة في سوريا، لكنها تظل محفوفة بالمخاطر إذا لم يتم التعامل معها بحكمة وحذر. الانتقال السياسي يتطلب وقف التدخلات الخارجية، وإطلاق مصالحة وطنية حقيقية، وتقوية الجسم الانتقالي ليكون قادراً على قيادة سوريا نحو مستقبل أكثر استقراراً وديمقراطية.
بدون هذه الخطوات، فإن سوريا ستظل عرضة ربما ليس للتقسيم ولكن للتقاسم، ما يعرضها لخطر أن تصبح ساحة لصراعات دولية وإقليمية، تُعيق أي فرصة حقيقية للسلام والاستقرار.
اللجنة التنفيذية
٢٩ كانون الاول ٢٠٢٤