مقدمة
في 27 أيار/ مايو 2020، أصدر المركز السوري لبحوث السياسات تقريرًا مهمًّا، عن آثار النزاع السوري بين عامي 2016 و2019. والتقرير هو جزء من سلسلة من التقارير أطلقها المركز، بدأت بتقرير صادر في بداية عام 2013. وسأناقش، في هذا النصّ، بعض مضامين تقارير المركز عمومًا، مع التركيز على مضامين التقريرين الأول والأخير خصوصًا، لأسباب عدة من أهمها أن التقرير الأول يتضمن أول شرح مفصل وأوسعه قدّمه المركز ﻟ جذور الأزمة والعوامل الكامنة وراءها؛ في حين إن التقرير الأخير يتضمن آخر النتائج التي توصل إليها المركز بخصوص آثار النزاع حتى عام 2019، مع عرض مكثف لجذور النزاع، وبعض الاستراتيجيات المقترحة لتجاوزه. إضافة إلى نصوص المركز سأحيل أحيانًا على بعض ما جاء في جلستَي إطلاق التقرير الأخير باللغتين العربية والإنكليزية. وسأركِّز مناقشتي على بعض الإشكالات التي تتضمنها تقارير المركز أو تثيرها، وأرى إمكانية إغناء النقاش بخصوصها، من دون أن يعني ذلك تقليلًا من أهمية المضامين والإشكالات الأخرى. وسيسود البعد النقدي، بنوعيه المحايث أو الداخلي والمفارق أو الخارجي، في مقاربتي التحليلية لنصوص المركز. ويستند مفهوم النقد -في هذا السياق- إلى المنظور الكانطي/ الريكوري الذي يعني العمل على إظهار مشروعية موضوع ما، وحدود هذه المشروعية، في الوقت نفسه. إضافة إلى الطابعين التحليلي والنقدي لمقاربتي المنهجية، فإن التحليل المفهوماتي هو الأداة المنهجية الأساسية التي سأستخدمها في مناقشتي لنصوص المركز.
المشكلة الرئيسة التي سيتمحور النقاش حولها، في هذا النصّ، تتعلق بمدى حضور البعد السياسي في مقاربة المركز ﻟ جذور الأزمة السورية أو غيابها أو تغييبها بالدرجة الأولى، وﻟ آفاقها وإستراتيجيات الخروج منها، بالدرجة الثانية، وتأثير هذا الحضور أو الغياب، في قدرة تلك النصوص على الإمساك المعرفي ﺑ جذور الأزمة السورية، وعلى اقتراح الإستراتيجيات الملائمة للخروج منها. وستتضمن تلك المناقشة 1- عرضًا سريعًا لعناوين نصوص المركز وبعض الخطوط العامة لمضامينها، 2- مناقشة لمدى حضور البعد السياسي في عناوين نصوص المركز أو غيابه/ تغييبه، 3- تحليلًا مفهوماتيًا للأبعاد الأساسية الثلاثة لمعنى السياسي، وللتمييز بين علاقات القوة أو القدرة وعلاقات السلطة في (علم) السياسة؛ 4- تحديد الأبعاد والمعاني السياسية الحاضرة أو الغائبة/ المغيَّبة في نصوص المركز، وصيغ هذا الحضور أو الغياب/ التغييب ودلالاته؛ 5- مدى اتسام نصوص المركز بسمتي التراكمية والموضوعية، بوصفهما سمتين أساسيتين من سمات البحث العلمي؛ 6- مناقشة إحدى المقاربات التي يقترحها لمعالجة آثار النزاع والخروج من الأزمة، وتأثر تلك المقاربة بطبيعة البعد السياسي الحاضر أو الغائب/ المغيَّب، في مقاربة المركز.
لمحة عامة عن نصوص المركز
أصدر المركز حتى الآن سبعة عشر نصًّا، ويمكن تحميل هذه النصوص من موقع المركز. ويقتصر اهتمام النصوص معظمها على الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة السورية، في مرحلة محددة من مراحل الأزمة. في المقابل هناك بعض النصوص التي تُركِّز على جانب معين من الجذور أو الآثار الاقتصادية أو الاجتماعية للأزمة. فعلى سبيل المثال، أصدر باحثو المركز عام 2014، بحثين مقارنين بين العامين 2001 و2009، ضمن دراسة مستويات المعيشة ورفاه الأطفال، عن الفقر متعدد الأبعاد في سورية، وعن حرمان الأطفال متعدد الأبعاد في سورية. إضافةً إلى تقريره السنوي الذي يرصد الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة، في خلال عام 2014 الذي حمل عنوان سورية: الاغتراب والعنف، أصدر المركز، في عام 2015، ورقةً بحثيةً تتضمن تحليلًا منهجيًّا لمؤشرات النظام الصحي، (المراكز الصحية والمستشفيات)، في سورية عام 2014. وعام 2016 أصدر المركز تقريرين، أحدهما يرصد -كالعادة- آثار الأزمة في عام 2015، حمل عنوان سورية.. مواجهة التشظي؛ والآخر تناول المسألة السكانية في سورية قبل الأزمة وفي أثنائها. وعام 2017 أصدر المركز تقريرًا عن أثر النزاع المسلَّح في سورية في العلاقات الاجتماعية. وفي عام 2019 أصدر المركز تقريرًا بعنوان الأمن الغذائي والنزاع في سورية، قبل أن يصدر تقريره الأخير الذي يتناول- وفقًا لعنوانه- آثار النزاع، في السنوات الثلاث الأخيرة 2016-2019.
من الواضح، من عناوين نصوص المركز، ومن مضامينها، تركيز هذه النصوص على آثار الأزمة أو أبعادها وسياساتها عمومًا، وعلى الآثار أو الأبعاد والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، خصوصًا. وحتى حين يتضمن أحد هذه النصوص حديثًا عن جذور الأزمة أو العوامل الكامنة وراءها، فإن هذا الحديث لم يكن يتجاوز الإشارة السريعة التي تكرر حرفيًّا -غالبًا- ما جاء في التقرير الأول للمركز. وهذا التركيز ليس أمرًا سلبيًّا، لا من حيث المبدأ، ولا من حيث الفعل أو النتيجة، لا بل يمكن القول بإيجابية هذا التركيز، لكونه سمح للمركز بتحديد أكثر دقةً، وموضوعيةً، لمجال أبحاثه وتقاريره أو موضوعها. وأفضى ذلك إلى تقديم كثير من الوقائع والإحصاءات، وتوثيق كثير من المسائل المهمة، في هذا الخصوص. لكن كما هو الحال في كل بحث، لهذا التحديد أو التضييق ثمنٌ بالتأكيد، ويتجسد هذا الزمن في الحد من شمولية الرؤية التي يقدمها المركز، وتهميش البعد السياسي، وعدم إيلائه في نصوص المركز، الأهمية التي نعتقد أنه يشغلها في الواقع. وقد حاولت نصوص المركز التقليل من فداحة هذا الثمن، بالإشارة المهمة في نصوصها كلها، إلى جذور الأزمة السورية، وإلى أهمية البعد السياسي لهذه الأزمة.
وقبل الانتقال إلى مناقشة مسألة مدى حضور البعد السياسي في عناوين نصوص المركز ومضامينه، أود الإشارة إلى أن تقارير المركز كلها، والنصوص الصادرة عنه، تصدر بنسختين إنكليزية وعربية. وقد لاحظت بعض الاختلافات في المبنى والمعنى، بين النسختين على الرغم من أنهما لتقرير واحد. لهذا السبب، فإنني سأقتصر على مناقشة النسخة العربية من التقارير، مع الإحالة على النسخة الإنكليزية، أو على بعض الاختلافات بين النسختين، في حال ارتأيت أن تلك الإحالة مفيدةٌ و/ أو ضروريةٌ. والنسخة العربية الحالية من التقرير الأخير لا تتضمن إحالات التوثيق، على الرغم من وجود هذه الإحالات في النسخة الإنكليزية.
دراسة-نقدية-عن-الأزمة-السورية-1.pdf
المصدر: دراسة نقدية لتقارير المركز السوري لبحوث السياسات عن الأزمة السورية – مركز حرمون للدراسات المعاصرة