سيبدأ ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية مع نشر هذا المقال، ولم يتوقّع أحد على الإطلاق أن تمرّ النتائج من دون معركة ضارية، خصوصاً إذا خسر دونالد ترامب. من ثمّ، ستكون هذه الدورة مرّةً أخرى تحتدم الصراعات فيها بشكل خطر على الوضع الدولي كله، إضافةً إلى البلد المعنيّ ذاته.
لا يبحث هذا المقال مباشرة في ما هو سياسي في هذا الموضوع، في انعكاساته وتأثيره، بل يحاول فهم الآليّات الخاصة له، ومعانيها أو الاستنتاجات من مسارها.
منذ الرابع من يوليو عام 1776 وحتى عام 2000، حدث مثل ذلك سبع مرات. وحدث منذ عام 2016 وحتى الآن ثلاث مراتٍ متوالية: في الأولى بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، والثانية بين جو بايدن ودونالد ترامب؛ والثالثة في هذا العام، بين كامالا هاريس.. ودونالد ترامب أيضاً!
في المؤتمر الدستوري عام 1787، كانت المناقشات الأكثر حدّة حول كيفية أو طريقة انتخاب رئيس الولايات المتّحدة. وفي حين اعتقد بعض من أصبح لقبهم «الآباء المؤسسين»، أن الانتخاب المباشر على مستوى البلاد من قبل الشعب سيكون الطريقة الأكثر ديمقراطية. ولكن الآخرين رأوا أن التصويت الشعبي المباشر غير عادل، لأنه سيعطي قدرا كبيرا من السلطة للولايات الأكبر والأكثر سكانا. كما كانوا قلقين من إمكانية التلاعب بالرأي العام بسهولة شديدة، وخشوا أن يؤدي الانتخاب المباشر إلى ظهور زعيم طاغية عازم على الاستيلاء على السلطة المطلقة لنفسه. وكانوا قد ضمنوا شيئاً من العدل في المادة رقم 2 من الدستور قبل بضع سنوات، في أجواء العمل على التوافق، الطريق الوحيدة لأخذ موافقة جميع الولايات على الاتحاد. كانت نتيجة هذا الصراع هي الهيئة الانتخابية، وهو النظام الذي يصوت بموجبه الشعب الأمريكي ليس للرئيس ونائب الرئيس، ولكن لمجموعة أصغر من الناس، والمعروفين باسم الناخبين الكبار. ثم يدلي هؤلاء الناخبون بأصواتهم مباشرة للرئيس ونائب الرئيس، في اجتماع يعقد بعد عدة أسابيع من الانتخابات العامة. يتوزّع عدد الناخبين الكبار على الولايات بشكل لا يتناسب مع عدد السكان تماماً، ويراعي الولايات الصغيرة بعض الشيء، كما هو الأمر في مجلس الشيوخ، حيث تتساوى وايومنغ (أقل من 600 ألف بقليل) مع كاليفورنيا (أقل من 40 مليون بقليل) في التمثيل، كما هو معروف. هنا يتجلّى بعض تفاصيل اللامركزية الأمريكية الخاصة.
شهدت الأعوام الثمانية الأخيرة ثلاث مرات مشاكل ترتبط باسم دونالد ترامب، لذلك، ربّما يميل كثير منهم إلى تمنّي فوز كامالا هاريس
في انتخابات عام 1800، لم يحصل أيٌّ من المرشحين على الأصوات المطلوبة في الهيئة الناخبة، وذهبت المسألة للحسم في مجلس النواب كما يقضي الدستور، وهناك فاز جيفرسون ونائبه المحدّد بور، واتّجه الأمر بعد ذلك إلى التعديل الثاني عشر على الدستور، الذي يفصل بين انتخاب الرئيس ونائبه.
ذهبت الانتخابات عام 1824 مرة أخرى إلى مجلس النواب بعد أن لم يحقق أيّ من المرشّحين أغلبية الهيئة الناخبة. وهناك انسحب أحد المرشّحين الأربعة ثمّ ألقى بثقله من وراء ستار خلف جون آدامز الذي فاز. فاز أبراهام لينكولن بمعظم أصوات الشمال في عام 1860، وغيره بمعظم ولايات الجنوب، لتنفصل الأخيرة وتشكّل الولايات الكونفدرالية الأمريكية، ثمّ لتندلع الحرب الأهلية بعد صدور قرار رئاسي من أجل تحرير العبيد بعد ثلاث سنوات. وسمعنا بانتخابات عام 1876 عند مقارنتها بتلك في عام 2000 آنئذٍ كانت النتائج في أربع ولايات محلّ خلاف، واقتضى الأمر لجنة مشتركة، بين الكونغرس والمحكمة العليا، وكذلك إعادة عدّ الأصوات، وتدافع حول قانونية بعض الناخبين الكبار. تمّت الأمور بالتسوية لاحقاً، حيث قبل الديمقراطيون بفوز هايز مقابل سحب القوات الفيدرالية من الجنوب، ما أنهى عملية إعادة الإعمار، وضرب نسبياً مكاسب الأمريكيين من أصل افريقي لغير صالحهم، حتى أتت حركة الحقوق المدنية في 1968.
في عام 1912، تقاسم روزفلت وتافت أصوات الجمهوريين، ما أفسح للديمقراطي وودرو ويلسون للفوز. انتهى يومذاك وجود نتائج لا يكون فيها الحزبان الرئيسيان في المركز الأول أو الثاني، كما حلّ للمرة الأولى والأخيرة مرشح اشتراكي هو يوجين ديبس بنسبة 6% من التصويت الشعبي. كذلك حدث أن تعرّض تيودور روزفلت لمحاولة اغتيال من قبل متعصّب في ذروة الحملة الانتخابية.
بعد انتهاء يوم انتخابات التجديد لهاري ترومان في عام 1948، كان نائماً بعمق مقتنعاً بأنه قد خسر الانتخابات، ليوقظه مساعدوه على خبر فوزه. وكانت صحيفة «شيكاغو تريبيون» قد نشرت نبأ خسارته في صدر صفحتها الأولى. ثم انتقلنا مباشرة إلى عام 2000 ما بين آل غور وجورج بوش الابن، التي فاز فيها الأول شعبياً بفارق نصف مليون صوت، وانتهت بفوز الثاني بعد اتهامات وإعادة فرز ولجوء إلى المحكمة العليا.
اتسمّت الانتخابات الأخيرة بخلافات ومعارك شديدة وقلاقل، وارتبطت كلّها باسم دونالد ترامب: في الأولى تنافس مع هيلاري كلينتون وفاز، وفي الثانية مع جو بايدن وخسر.. وهو في الثالثة الأشدّ أواراً يتنافس مع كامالا هاريس الديمقراطية التي تجمع ما بين تحدّيين في كونها أمريكية افريقية مثل باراك أوباما، وامرأة مثل هيلاري كلينتون. حصلت الأخيرة- السيّدة الأولى السابقة وعضو مجلس الشيوخ ووزيرة الخارجية- على ثلاثة ملايين صوت في الانتخابات أكثر من الملياردير ومقدّم برامج الواقع دونالد ترامب في حينها، بعد انتخابات عاصفة اتُّهم فيها ترامب بالشعبوية والمناورة، وجرى فيها استخدام التلاعب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإيميل وغيرها، وكذلك توجّت اتهامات متعدّدة بالتلاعب من قبل دول أجنبية – روسيا- بوتين خصوصاً- وبالتأثير على الناخبين بأشكال متنوّعة. ظهرت في تلك الانتخابات أيضاً تلك اللغة غير المعتادة في التقليل من شأن الخصم وإهانته. وما زالت آثار تلك المعركة تتردّد وتجري مراجعتها حتى الآن، خصوصاً في باب التدخّل الأجنبي.
في انتخابات بايدن – ترامب منذ أربع سنوات، كان هنالك ضرب تحت الحزام أيضاً واتّهامات ما زالت قضاياها قيد التحقيق أو المحاكمة، أو على الأقل الإثارة الإعلامية. ظهرت الاتّهامات بالتدخّل أيضا، مع تكرار نقاط أخرى. وتميّزت بالاعتراضات على الانتخاب بالبريد، وعلى دقة التعداد أو أخطائه، وانتهت بعد لأي بتكريس نجاح جو بايدن. إلّا أن الاعتراض استمرّ، وبعنف شديد وحشدٍ للقوى العصبوية التي تجتمع على فكر تفوق الرجل الأبيض، وما يشبه ذلك. فحدثت تلك الهجمة الخطيرة على تلة الكابيتول في السادس من يناير، حيث يوجد مبنى الكونغرس، وظهر عنف غير مسبوق جعل البعض يشبهه بمحاولة الانقلاب ليس على النتائج وحسب، بل على الدستور و»المؤسسة» أيضاً، كان الهدف المعلن الضغط حتى لا يصادق الكونغرس على نجاح بايدن.
لذلك كلّه يضع العالم، وليس الأمريكيون وحدهم، أيديهم على قلوبهم، قلقاً ممّا يمكن أن يحدث في يوم الخامس من نوفمبر هذا، وبعده. وحتى البعيدين كثيراً ينتظرون، حول بحر الصين وتايوان، وفي غزة ولبنان ومنطقتهما كلّها، وفي أوكرانيا والدول الأوروبية حولها، وبين المتمسّكين بدور الحلف الأطلسيّ ويخشون على مصيره، فقد كانت هنالك ثمانية انتخابات إشكالية خلال ما يقارب مئتين وخمسة وثلاثين عاماً، وشهدت الأعوام الثمانية الأخيرة ثلاث مرات مشاكل ترتبط باسم دونالد ترامب، لذلك، ربّما يميل كثير منهم إلى تمنّي فوز كامالا هاريس… لكنّ بعضهم يميلون أيضاً إلى ترامب، ليس كرهاً ببايدن وهاريس وما فعلاه أو لم يفعلاه في دورتهما المنتهية، بل ميلاً إلى السلم والأمان والحذر.. لأن ترامب ربّما يهدأ قليلاً إذا فاز، في حين سيرفض غالباً نتائج الانتخابات إن خسر، على عكس منافسته الديمقراطية.
ويعتقد بعض العرب والمسلمين في داخل الولايات المتحدة وخارجها؛ بل ربّما معظمهم؛ أن نجاح ترامب ربّما يكون مدخلاً للحسم في قضاياهم، على أيّ وجه يكون هذا الحسم!