كثيراً ما اشتكى فريق إدارة دونالد ترامب في فترته الأولى (2016 – 2020) بعدم قدرتهم على التنبؤ بما يفكر فيه وما سيقوم به بعد قليل!
ترامب نفسه يعرف ذلك ويعتبرها نقطة في صالحه. فقد أوضح في مقابلة له قبل فوزه بالرئاسة أن الزعيم الصيني شي جين بينغ يحترمه. والسبب؟ أن ترامب مجنون كبير!
لكن ترامب 2024 له ميراث من التفكير غير المنظم والقرارات الارتجالية في السابق. لا أحد في العالم يتساءل الآن من هو ترامب ولماذا يتحدث بهذه الطريقة وهو زعيم أعظم دولة في العالم؟ الجميع يعرف ترامب الآن. السؤال: هل يمكن بناء تصور عما سيقوم به وما الذي سيغيره في السياسة الخارجية وما الذي يعجز عن تغييره؟
في فترة رئاسته الأولى، حاول الانقلاب على قواعد السياسة الأميركية السائدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لكنه لم ينجح سوى قليلاً. يضاف إلى ذلك، أنه لا يمكن التقليل من حجم إرث الرئيس جو بايدن في السياسة الخارجية. لذلك، فإن التخلص بقرارات ارتجالية من هذا الإرث أقرب للاستحالة أو سيقود إلى كارثة في التداعيات الإنسانية، على غرار ما حدث حين سمح للجيش التركي بالتوغل داخل مناطق تحت الحماية الأميركية في شمال سوريا عام 2019 (سري كانيه/ راس العين وتل أبيض) وتسبب بتهجير أكثر من 400 ألف مدني وفتح الباب أمام فصائل المعارضة السورية لتنفيذ تهجير عرقي وتفشي خطاب الكراهية ضد الكرد في الحياة اليومية ووسائل الإعلام الداعمة لهجمات المعارضة السورية.
تسبب ترامب في اضطراب داخل الإدارة الأميركية حينها، واستقال وزير الدفاع جيمس ماتيس على إثرها، واضطر في النهاية إلى التراجع لكن بعد فوات الأوان.
هل لمثل هذه القرارات مكان في عالم ترامب الجديد؟
مبدئياً، نعم. سيبقى هذا عالم ترامب طالما أنه لم يراكم أي معرفة سياسية إضافية في الفترة التي قضاها خارج الرئاسة من (2021 – 2024)، فما زال يفكر في العالم بطريقة «الواقعية السحرية الطفولية»، مثل لصق علم الصين على طائرات أميركية ثم قصف روسيا، فتندلع حرب بين روسيا والصين، وتجلس واشنطن تتفرج عليهما! قال ذلك حرفياً في خطاب ألقاه في نيو أورلينز 5 مارس/آذار 2022.
كيف سيغير ترامب العالم؟
تحت هذا العنوان، كتب بيتر د. فيفر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ديوك، في مجلة «فورين أفيرز» عن ملامح سياسية ترامب الخارجية. وهو يعتقد أنه مع البيانات المتراكمة من أربع سنوات من رئاسته السابقة وأربع سنوات أخرى من رئاسته الحالية وعام من الخطابات في حملته للبيت الأبيض، فإنه من الممكن إجراء بعض التنبؤات حول ما سيحاول ترامب القيام به في ولايته الثانية.
يشدد بيتر د. فيفر على أمرين أساسيين حول اتجاهات ترامب:
أولاً، كما في ولاية ترامب الأولى (وكما هو الحال في جميع الإدارات الرئاسية)، سيشكل الموظفون السياسة، وستتنافس المؤسسات المختلفة على النفوذ. بعضها يحمل أفكاراً راديكالية حول إعادة البناء الإداري والسياسة الخارجية. والبعض الآخر لديه وجهات نظر أكثر تقليدية. ولكن هذه المرة، ستكون للأجنحة الأكثر تطرفًا اليد العليا، وستضغط للحد من فاعلية الأصوات الأكثر اعتدالًا، مع ارتياب من المهنيين المدنيين والعسكريين، حيث يرى الجناح المتشدد أنهم «الدولة العميقة».
ثانيا، لا يزال جوهر نهج ترامب في السياسة الخارجية: المنفعية المحضة (naked transactionalism) ــ دون تغيير. ولكن السياق الذي سيحاول فيه تنفيذ شكله الفريد من إبرام الصفقات تغير بشكل كبير. فالعالم اليوم مكان أكثر خطورة مما كان عليه خلال ولايته الأولى. لقد صور خطاب حملة ترامب العالم بمصطلحات كارثية، فصور نفسه وفريقه على أنهم واقعيون متشددون يدركون الخطر. ولكن ما قدموه كان أقل واقعية من الواقعية السحرية والتي لا تعكس أي فهم حقيقي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة. وقد يعتمد ما إذا كان ترامب قادراً في الواقع على حماية المصالح الأميركية، في هذه البيئة المعقدة، على مدى سرعة تخلصه وفريقه من صورة الحملة الكاريكاتورية التي أقنعت أكثر من نصف الناخبين في نهاية المطاف.
يصنف بيتر د. فيفر فريق ترامب السابق واللاحق في ثلاث مجموعات. الأولى والثانية تضم خبراء مخضرمين يحاولون تعديل سياسات ترامب. أما المجموعة الثالثة، فهي الأكثر تطرفاً ومنقادة بشكل أعمى لتنفيذ تعليمات ترامب دون طلب أي توضيح أو اعتبار للعواقب. فهم من المؤمنين بشعار «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى». على سبيل المثال، كانت المحاولات المحفوفة بالمخاطر للانسحاب من أفغانستان والتزامات حلف الناتو في الأيام الأخيرة من الولاية الأولى من ابتكار موظفين صغار برزوا بعد رحيل القادة الأكبر سناً والذين سعوا إلى منع ترامب من اتباع سياسات ضارة. في ولاية ترامب الأولى، كانت المجموعة الثالثة صغيرة وتأثيرها على ترامب محدود. أما هذه المرة، ستكون أكبر وأكثر نفوذاً.
ماذا عن الحلفاء والخصوم؟
لقد نظر أغلب حلفاء الولايات المتحدة إلى فوز ترامب بخوف شديد، معتقدين أنه سيكون بمثابة المسمار الأخير في نعش الزعامة العالمية التقليدية لواشنطن. وهناك الكثير مما يمكن انتقاده بشأن السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، على حد تعبير الأستاذ في جامعة ديوك. ولم يتوقف حلفاء الولايات المتحدة قط عن التعبير عن شكواهم. ولكنهم أدركوا أيضاً أن حقبة ما بعد 1945 كانت أفضل كثيرا بالنسبة لهم من الحقبة التي سبقتها، والتي تنصلت خلالها واشنطن من مسؤولياتها، ودفع الملايين الثمن في نهاية المطاف.
عندما اختار الناخبون الأميركيون ترامب للمرة الأولى في 2016، رد حلفاء الولايات المتحدة بمجموعة متنوعة من استراتيجيات التحوط. لكن هذه المرة، أصبحوا في موقف أضعف كثيراً بسبب التحديات الداخلية والتهديدات الخارجية من روسيا والصين.
يعتقد بيتر د. فيفر أن حلفاء الولايات المتحدة سوف يحاولون إرضاء ترامب. وإلى الحد الذي تسمح به قوانينهم، سوف يعرضون عليه الإغراءات والمكافآت التي أثبتت أنها أفضل طريقة للحصول على شروط مواتية خلال فترته الأولى.
على النقيض من ذلك، فإن عودة ترامب بالنسبة إلى خصوم الولايات المتحدة سوف تقدم فرصاً وفيرة.
لقد وعد ترامب بمحاولة إجبار أوكرانيا على التنازل عن أراضٍ لروسيا وتعزيز مكاسب بوتن من الغزو. وعلى عكس العديد من وعود الحملة، فإن هذا الوعد قابل للتصديق لأن ترامب أحاط نفسه بمستشارين مناهضين لأوكرانيا ومؤيدين لبوتين. ومن المرجح أيضاً أن يتم تنفيذ خطته لأوكرانيا لأنها تقع بالكامل ضمن نطاق صلاحيات الرئيس.
إن السؤال هو ما إذا كان بوتين سيقبل الاستسلام الجزئي لترامب مع إدراكه أنه يمكنه دائماً الاستيلاء على بقية أراضي أوكرانيا بمجرد أن ينجح ترامب في فرض «الحياد» على كييف أو ما إذا كان بوتين سيطالب ترامب بالاستسلام الكامل؟
الفوائد بالنسبة للصين أقل وضوحاً، حيث يغرق العديد من مستشاري ترامب الرئيسيين في الواقعية السحرية المتمثلة في الاعتقاد بأن الولايات المتحدة يمكن أن تضحي بمصالحها في أوروبا بينما تعمل بطريقة ما على تعزيز الردع ضد ما يسميه فيفر والاستراتيجيون الأميركيون «التنمر الصيني في شرق آسيا».
يتوقع فيفر أنه في وقت ما من رئاسة ترامب الثانية، سيشعر بنفسه بشلل السياسة الخارجية جراء توجهاته الانعزالية التي أعلنها مجدداً في حملته الانتخابية.
ترامب في لحظة ما قد ينقلب على المجموعة الثالثة المتطرفة التي تريد تنفيذ أجندة السياسات المعلنة في الحملة الانتخابية والانعزال عن العالم
لذلك، يعتقد فيفر، وهو خبير استراتيجي خدم في مجلس الأمن القومي الأميركي، أن ترامب في لحظة ما قد ينقلب على المجموعة الثالثة المتطرفة التي تريد تنفيذ أجندة السياسات المعلنة في الحملة الانتخابية والانعزال عن العالم. وكما يصف ماكماستر في مذكراته، وهو مستشار الأمن القومي الثالث في عهد ترامب، فإن مساعدي ترامب الأكثر ذكاءً سوف يصورون أي شيء يريدونه أن يفعله ترامب على أنه الشيء الذي قال أعداؤه إنه لا يستطيع فعله. قد تنجح هذه الحيلة لفترة قصيرة، ولكن في مرحلة ما، بحسب فيفر، سوف يتحرك ترامب حتماً في اتجاه مختلف تماماً، وقد ينتهي الأمر إلى إحباط المجموعة الأكثر تطرفاً في فريقه بدلاً من تمكينها.
مؤرخ أميركي: الديمقراطيون تجاوزا حدودهم
من اللافت أن أكاديمياً آخراً هو ستيفن كوتكين لا يعتقد أن ترامب، ورغم ضحالة معرفته السياسية، ساذج بشكل كلي. فهناك صحوة ما، إلى جانب ورطة متراكمة، ستعيد تشكيل ترامب فجأة.
وكوتكين هو مؤرخ أميركي بارز متخصص بتاريخ روسيا ومؤلف سيرة ذاتية من ثلاثة مجلدات لجوزيف ستالين. كما كتب عن الجغرافيا السياسية ومصادر القوة الأميركية والمنعطفات والتقلبات في عصر ترامب.
تحدث كوتكين إلى مجلة «فورين أفيرز» في مقابلة خاصة بعد ساعات من فوز ترامب. والبداية كانت بسؤال: ما الذي تتخيل أن بوتين يفكر فيه الآن، مع استعداد ترامب للعودة إلى البيت الأبيض لولاية ثانية؟
أجاب كوتكين:
«أتمنى لو كنت أعرف. لا تريد هذه الأنظمة الغامضة في موسكو وبكين أن نعرف ما تفكر فيه. ما نعرفه من أفعالها وكذلك تصريحاتها العامة المتكررة هو أنها توصلت إلى وجهة نظر مفادها أن أمريكا كانت في حالة انحدار لا رجعة فيه. شهدنا الكثير من الأحداث التي عززت وجهة نظرهم بأننا في حالة انحدار. كانوا سعداء للغاية بالتشبث بأمثلة على وجهة نظرهم بأن الولايات المتحدة والغرب في حالة انحدار، وبالتالي فإن يومهم سيأتي. إنهم المستقبل؛ ونحن الماضي. حدث كل ذلك قبل ترامب. صحيح أن ترامب يبدو وكأنه هدية محتملة لهم، لأنه لا يحب التحالفات، أو على الأقل هذا ما يقوله: الحلفاء متطفلون. ولكن ماذا حدث في عهد بايدن؟ ليس الأمر وكأن القوة الأميركية زادت بشكل كبير في عهد بايدن أو في عهد باراك أوباما. لذا، قد يعمل ترامب على تسريع ما تراه موسكو وبكين على أنه اتجاه لإضعاف الذات. لكنه غير متوقع. وقد يحصلون على العكس».
فيما يتعلق بأوكرانيا، فإن إجابات كوتكين منفتحة على الاحتمالات المتطرفة أكثر من ترجيحات الأكاديمي فيفر:
«ترامب لا يؤمن بشيء أو آخر بشأن أوكرانيا. وبالتالي، فإن أي شيء ممكن بطريقة ما. قد يتبين أن الأمر أسوأ بالنسبة لأوكرانيا، ولكن قد يتبين أنه أفضل. من الصعب للغاية التنبؤ لأن ترامب يصعب التنبؤ به. قد يكون من الممكن حتى أن تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو في عهد ترامب، وهو ما لم يكن ليحدث أبداً في عهد بايدن. أنا لا أقول إن هذا سيحدث. لا أقول إن هناك احتمالية كبيرة حتى ولا أقول إنه سيكون أمراً جيداً أو سيئاً إذا حدث. أنا فقط أقول إن فكرة أن ترامب هو هدية خاصة لخصومنا لا تروق لي. وقد يفاجئهم بشأن التحالفات وإعادة بناء القوة الأميركية».
ينتقد كوتكين الطريقة التي يقدم بها الإعلام السائد صورة ترامب. وفي مقال له يعود للعام 2019، قام بدمج ترامب في الشخصية الأميركية النمطية. الاستعراض وروح القراصنة والغرائز الحادة هي من بين السمات التي جعلت الولايات المتحدة ما هي عليه. هناك سبب يجعل ترامب قادراً، في دورة انتخابية واحدة، على هزيمة سلالتي بوش وكلينتون الراسختين.
والآن، وفق كوتكين، تؤكد نتائج الانتخابات أن ترامب يجسد الروح الأميركية، في هذه اللحظة من التاريخ، بدقة أكبر بكثير من خصومه في النخبة والمؤسسة:
«في الولايات المتحدة، لم يحتفظ أي حزب قائم بسلطة وهو يتمتع بمعدلات موافقة رئاسية منخفضة مثل بايدن. لقد تجاوز الديمقراطيون حدودهم. حقق بايدن فوزاً في المجمع الانتخابي في 2020 بعد أن خاض حملته الانتخابية كشخص معتدل ومستقر. لكنه واصل الحكم كما لو كان فاز بأغلبية ساحقة، وغالباً من اليسار المتشدد، عبر حزمه كاملة من الأشياء: الحدود والمناخ والطاقة والجنس والعرق والجريمة والشرطة، وما إلى ذلك. وكما كتبت، فإن ترامب ظاهرة. بالإضافة إلى سلالة كلينتون وسلالة بوش، هزم الآن سلالة تشيني. لقد هزم ترامب المؤسسة العسكرية والأمنية الوطنية التي خدمته وعارضت إعادة انتخابه. لقد هزم المؤسسة العلمية. يا له من أمر مدهش!».
بالنسبة لمؤرخ قضى حياته وهو يدرس ستالين وترامب وعناصر القوة في الامبراطوريات، يعي كوتكين الفجوة المتنامية بين التزامات واشنطن في الخارج وبين قدراتها. فقد كان الحديث عن تحمّل المزيد من الالتزامات، سواء كان ذلك من خلال ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو أو توقيع معاهدة تحالف مع السعودية ، حتى في ظل الشكوك في الداخل والخارج حول ما إذا كان هناك الإرادة والقدرات اللازمة للوفاء بالالتزامات الحالية وما إذا كانت القاعدة الصناعية الدفاعية قادرة على القيام بمهمة الدفاع عن جميع الحلفاء الحاليين في المعاهدة، في ظل الشكوك حول الوضع المالي الذي تآكل بشدة، ومن المرجح أن يتآكل أكثر في عهد ترامب الجديد، كما حدث في عهد بايدن وترامب الأول.
حاول أوباما سن سياسة التقشف، لكنه ظل يتعرض لضربات قوية بسبب المطالبات بتطبيق أكبر للقوة الأميركية. كما أراد ترامب تقليص الالتزامات في الخارج، لكن انتهى به الأمر إلى التحول إلى نهج أكثر مواجهة تجاه الصين، وهذا يتطلب موارد جديدة هائلة لابد أن تأتي من مكان ما. مثل ترامب، أراد بايدن الخروج من أفغانستان، مهما كانت النتيجة، ووجد أنه مضطر إلى الرد على الحرب في أوكرانيا والحرب بين إسرائيل وحركة حماس من خلال التزامات إضافية كبيرة. كيف يمكن لواشنطن أن تدير كل الالتزامات التي لديها؟ كيف يمكنها زيادة قدراتها؟
إذاً، هذا هو واجهة الصندوق المفتوح أمام ترامب. يبدو نهجه، من الناحية الخطابية، مختلفاً تماماً عن نهج أوباما وبايدن. لكنه يواجه نفس المعضلة المتراكمة، وهو الفجوة بين الالتزامات والقدرات، وهي فجوة تزاداد خطورة لأن المطروح إما مكابرة ديمقراطية أو مبالغة جمهورية.