بعد لقاءات حوارية عديدة نحو ثلاث سنوات، عقدت قوى سياسية سورية، مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) ومنظمات وشخصيات سورية تصنف نفسها قوى ديمقراطية، يومي الـ25 والـ26 من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) مؤتمراً في بروكسل بهدف تأسيس جسم سياسي منظم تحت اسم “المسار الديمقراطي السوري”، من أجل العمل على تحقيق تغيير سياسي في سورية، مسترشداً بالمنطلقات السياسية التي جرى التوافق عليها في الحوارات السابقة. وأصدرت الأمانة العامة التي انتخبها المؤتمرون بياناً ختامياً تضمّن عدة مبادئ ستنظم حركة “المسار” وتوجّهه. هنا قراءة نقدية للبيان.
قال البيان: “ومن أجل أن توضع سورية من جديد على المسار الديمقراطي، يؤكد المؤتمر الحقائق التالية التي سنبذل كل الجهود من أجلها:– وحدة سورية أرضاً وشعباً، لأن الحفاظ على وحدة البلاد هو الأساس في أي حلّ سياسي، وهو ما يجب أن يشكّل قاعدة لأي عملية تفاوضية. – الانتقال السياسي عبر الأمم المتحدة والقرارات الدولية، وبخاصة القرار 2254، وتوسيع تمثيل السوريين وتعزيز وزنهم الذي يمثل الإطار القانوني المعتمد لتحقيق التسوية السياسية بين جميع الأطراف. – تأكيد الهوية الوطنية السورية التي تسمو على الهويات الفرعية وتحتضنها. – إن لمسار الديمقراطية والتقدم علاقة طردية مع تمكين المرأة، ولن يبلغ التغيير مداه من دون ذلك، وفي الوقت نفسه، إذا كان هذا القرن قرناً لإنجاز المساواة الجندرية، يجدر بنا أن نكون في قلب تلك الحركة. – تأكيد دور الشباب ومساهمتهم في صنع القرار وضرورة تمثيلهم في الهيئات المنبثقة من المسار لاستثمار طاقاتهم وقدراتهم.– ضرورة إقامة نظام لامركزي تتحدد تفاصيله عبر حوار وطني شامل بين الأطراف كافة، لضمان حقوق جميع مكونات الشعب السوري ومنع عودة الاستبداد. – الفصل بين الدين والدولة وحياد الدولة تجاه الأديان. – بناء الجمهورية السورية وتحصين حقوق الجماعات والأفراد يتطلب مبادئ دستورية محصّنة تعتمد على القوانين والمواثيق والشرعة الدولية لحقوق الإنسان والجماعات وأن يكون للقانون الدولي والمواثيق الدولية الأولوية على المبادئ الدستورية، بشكل خاص القانون الدولي الإنساني – جنيف 1949. – تُعتبر الديمقراطية نظاماً ضامناً لضبط فعالية الحياة السياسية السورية، القائمة على التنوع والغنى المجتمعي، بما يضمن تحقيق أفضل النتائج على المستوى السوري العام. – تأكيد حلّ القضية الكردية وفق الشرعية الدولية وضمان حقوق المكونات الإثنية الأخرى”.
عانى البيان من تعارض ونقاط ضعف، حيث يلاحظ القارئ المدقّق في قائمة المبادئ التي أعلنت تعارضاً بين قول البيان في البند الثاني: “الانتقال السياسي عبر الأمم المتحدة والقرارات الدولية، وبخاصة القرار 2254″، وقوله في البند السادس: “ضرورة إقامة نظام لامركزي”، حيث إن القرار الدولي المذكور لا يدعو إلى إقامة نظام لامركزي، بل يدعو إلى إقامة “حكم ذي مصداقية يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية”، و”حدّد جدولاً زمنياً لصياغة دستور جديد”، و”دعمه انتخابات حرّة ونزيهة تجرى، عملاً بالدستور الجديد”. لذا، قضية اختيار شكل النظام السياسي مؤجّلة إلى ما بعد تنفيذ الانتقال السياسي بإقامة هيئة الحكم الانتقالية وامتلاك الشعب السوري قراره والبدء بمناقشة الخيارات السياسية والاقتصادية، وفي مقدّمتها النظام السياسي، ما يجعل وضع بند “ضرورة إقامة نظام لامركزي” غير مناسبٍ في هذا التوقيت.
كذلك سيلاحظ ورود كلمة الجماعات مرّتين في قوله في البند الثامن: “بناء الجمهورية السورية وتحصين حقوق الجماعات والأفراد يتطلب مبادئ دستورية محصّنة تعتمد على القوانين والمواثيق والشرعة الدولية لحقوق الإنسان والجماعات”. هنا يبرز السؤال: ما هي حقوق الجماعات في الشرعة الدولية؟ إذ المعروف أن الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ليس في الصيغة الرسمية كلمة والجماعات التي أضافها واضعو البيان، تتحدّث في معظم موادّها عن حقوق الأفراد، وتخصّص مادّة لحقوق الجماعات تحت عنوان حقوق الأقليات. وهذا يثير سؤالاً آخر عما إذا كان يُقصد بكلمة الجماعات الأقليات والقبول بما ورد في الشرعة الدولية بشأنها، حيث تركّز الشرعة في هذه المادة على المساواة أمام القانون وحقّ ممارسة الحقوق الثقافية واللغوية والدينية، إلا في حالة الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، فلها الحقّ في تقرير المصير.
كذلك سيجد في هذا البند قولاً يتناقض مع السائد دولياً، وذلك في قول البيان: “وأن يكون للقانون الدولي والمواثيق الدولية الأولوية على المبادئ الدستورية، بشكل خاص القانون الدولي الإنساني – جنيف 1949″، حيث إن المتعارف عليه دولياً أن لا شيء يعلو على الدستور، وأن القانون الدولي فوق القانون الوطني، وليس فوق الدستور الوطني، أي أن الدولة التي توقع على معاهدة دولية ويصدّق برلمانها على هذه المعاهدة، ملزمة بتغيير قوانينها التي تتعارَض مع محتوى هذه المعاهدة، وليس تغيير دستورها. لم هذا الموقف المتعارض مع المعمول به دولياً؟ أهو عدم تمييز حقوقي بين الدستور والقانون، أم محاولة لتمرير سابقة حقوقية لأهداف ذاتية؟
ويلاحظ القارئ تحاشي البيان إعلان المواقف بصراحة في قوله في البند العاشر: “تأكيد حلّ القضية الكردية وفق الشرعية الدولية وضمان حقوق المكونات الإثنية الأخرى”. لماذا لم يحدّد ماهية الحل الذي تقول به الشرعية الدولية للقضية الكردية وغيرها من المكونات الإثنية، أهو بسبب عدم الاتفاق عليها، أم هو المتعارف عليه الوارد أعلاه عن حقوق الأقليات في الشرعة الدولية، أم هو غير معلن لتحاشي ردود الفعل التي ستثور عليه، لأنه ينطوي على مطالب غير مقبولة لدى عامّة السوريين؟
لا يواجه البيان هذه الثغرات فقط، بل ثمة قضايا مسكوت عنها في الواقع السياسي، الذي يؤسس “المسار” سرديته لمواجهته، منها تجاهله، بعد قوله: “بعد أن عانت وما زالت من استبدادٍ طويل مارسه نظامٌ تسلطي صادر السياسة ونزعها من المجتمع من خلال القمع والاضطهاد وتكريس الانقسامات العمودية (قومياً ودينياً وطائفياً)، طمعاً في تأبيد سلطته التي تفتقر إلى أي مصدر من مصادر الشرعية ما عدا شرعية الأمر الواقع والقوة العسكرية والأمنية”. تجاهله تفاوض قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الجناح العسكري لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، المشارك في “المسار”، التفاوض مع النظام السوري، الذي يقول عنه “إنه يفتقر إلى أي مصدر من مصادر الشرعية ما عدا شرعية الأمر الواقع والقوة العسكرية والأمنية”، بشأن حل جزئي خاص باحتياجات “قسد” لتعزيز موقفها في المواجهة مع القوات التركية. ألا يتعارض ذلك مع إعلان البيان افتقار النظام الشرعية، ومع توجّه “المسار” وسرديّته لإقامة نظام ديمقراطي في سورية قائم على شرعية شعبية حقيقية، ألا يمنح مثل هذا الاتفاق، لو حصل بين “قسد” والنظام، النظام شرعية مهما كانت نسبتها ويعزز موقفه في مواجهة مطالب المجتمع الدولي تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254. ألم يكن من الواجب إبداء الرأي بهذا الحوار وإعلان موقف منه، طالما اعتبر البيان النظام فاقداً للشرعية، وبالتالي لا يجوز الحوار معه، بل الضغط عليه لتنفيذ القرار المذكور، وإلا فما قيمة القول إنه يفتقر إلى الشرعية، أهو كلام إنشائي أم شعبوية؟
ويُلاحظ تجاهل البيان استهداف جميع الأطراف المدنيين، خصوصاً أنه ذكر الاعتداءات التركية المستمرّة والمتكرّرة على شمال سورية وشرقها. ألم يكن التوجّه الوطني لـ “المسار” يستدعي المطالبة بحماية المدنيين، وعدم إلحاق الأذى بهم من خلال القصف العشوائي، أو من خلال التعدّي على أملاكهم وأرزاقهم، كما يحصل في مناطق عفرين وراس العين وتل أبيض ودير الزور والحسكة.
وأخيراً، ألم يكن الموقف الديمقراطي الذي يبشّر به “المسار” يقتضي التعريج على انتشار سياسة الهوية والانقسامات العمودية بين السوريين على أسس عرقية ودينية ومذهبية التي نمت وتفشّت بسببها. ألا تشكّل سياسات الهوية نقيضاً للخيار الديمقراطي، الذي يقول “المسار” إنه هدفه وغايته المنشودة، وسبب لتكريس الإنقسامات المدمرة؟.
في الختام، انطوى البيان على مواقف سياسية ونظرية، سعت القوى المشاركة في المؤتمر لتحقيقها وتكريسها لخدمة منطلقاتها وأهدافها، حيث سجل مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) نقطتين في صالحه: “إدانة الاعتداءات التركية على شمال وشرق سورية”، و”ضرورة إقامة نظام لامركزي”، فيما سجّلت القوى الديمقراطية، هي الأخرى، نقطتين: “التمسّك بوحدة سورية أرضاً وشعباً”، و”تأكيد الهوية الوطنية السورية”. نقطتا “مسد” محدّدة وملموسة، ونقطتا القوى الديمقراطية مبادئ ومحدّدات للمواقف والعمل، ما يستدعي منها التنبه والمتابعة والتدقيق خلال الممارسة واتخاذ القرارات. وقد كان لافتاً أن معلقين من المعارضة السورية اتّهموا “مسد” بالسعي لتعزيز شرعيته والتمدّد خارج نطاق مناطق نفوذه، وكأنهم يريدون حقّاً من “مسد” العمل خارج مشروعه وخططه السياسية والعسكرية وخدمة أهداف غير أهدافه، وهو يمتلك القدرة على وضع أهدافه موضع التنفيذ؛ وكأنهم لا يعلمون أن السياسة فن تحقيق الممكن، وفن تغيير توازن القوى لإيجاد ممكن بديل.