
مر أسبوع على بداية «عملية ردع العدوان» التي أطلقتها «جبهة تحرير الشام» وفصائل متحالفة معها، حقق خلاله المهاجمون مكاسب كبيرة على الأرض غيّرت توزع القوى على الخارطة الميدانية في سوريا، بعد ثبات استمر سنوات في إطار ما تكرس بضمانة ثلاثي آستانة المؤلف من روسيا وتركيا وإيران. ثمة الكثير من التساؤلات يمكن أن تطرح لفهم حقيقة ما جرى ويجري، ولكن ثمة نقاطا يمكن تثبيتها من الآن كحقائق جديدة لا جدال فيها.
أولها أن المجموعات المهاجمة قد أعدّت لحملتها إعداداً جيداً، وخاضت المعارك بتخطيط جيد مكنها من التقدم بسرعة كبيرة في أرياف محافظة إدلب والريف الغربي لمدينة حلب خلال ساعات قليلة، ثم دخلت عاصمة الشمال وسيطرت عليها بلا قتال تقريباً. وقيل إن «خلايا نائمة» في المدينة تحركت بصورة استباقية وسهلت على القوات المهاجمة اقتحام المدينة.
وثانيها هو الانهيار السريع لقوات النظام والميليشيات «الرديفة» وانسحابها بلا قتال أمام المهاجمين. هذا الانهيار الذي فاجأ الجميع بمن في ذلك المهاجمون أنفسهم، إلى درجة جعلت بعض التحليلات تنحو نحواً تآمرياً بافتراض أن النظام قد نصب فخاً وقع فيه المهاجمون.
ثالثها أن القوات الروسية، سلاح الطيران أساساً، كانت غائبة تقريباً، الأمر الذي دفع إلى تحليلات أخرى تفترض اتفاقاً روسياً ـ تركياً على سيطرة القوات المعارضة على مدينة حلب وريفها، على رغم أن المؤشرات كثرت، في الأسابيع الأخيرة، حول تباعد وبرود بين موسكو وأنقرة، كان أبرزها تصريح أحد المسؤولين الروس، على هامش اجتماع آستانة الأخير في الأول من شهر تشرين الثاني، وصف فيه القوات التركية في سوريا بأنها قوات احتلال.
رابعها تبخر قوات حزب الله والميليشيات متعددة الجنسية التابعة لإيران، وهي التي كانت تكمل النقص الكبير في عديد قوات النظام في السيطرة على المدن والأرياف.
وخامسها تبخر النظام نفسه. فقد ذكرت بعض التقارير الإعلامية أن رأس النظام بشار الأسد قام بزيارة غير معلنة إلى موسكو، وأنه لم يتمكن من اللقاء مع الروسي إلا في اليوم الثاني لزيارته، ثم عاد على عجل إلى سوريا، ولا يعرف أين في سوريا. ثم ظهر اسمه للمرة الأولى بعد بداية «ردع العدوان» بمناسبة ثلاثة اتصالات أجراها مع قادة كل من دولة الإمارات والعراق و… أبخازيا! أما إيران الغائبة عن دبلوماسية الاتصالات التليفونية هذه بصورة غريبة فقد أوفدت وزير خارجيتها عراقجي إلى دمشق في خامس أيام «ردع العدوان».
المعارك ما زالت مستمرة، ولا يمكن التنبؤ بمساراتها المستقبلية. ولكن يمكن تثبيت نقطتين منذ الآن: خسارة كبيرة لنظام دمشق ولإيران تضاف إلى خسائر طهران في لبنان، ومكاسب كبيرة لتركيا
عراقجي الذي انتقل من دمشق إلى أنقرة للقاء وزير الخارجية التركي لم يلق من شريكه التركي في مسار آستانة الاستجابة التي كان يتمناها، فعاد إلى طهران خائباً ليتولى علي لاريجاني مهمة الكشف عن الخلاف الحاد بين العاصمتين بشأن ما يدور في سوريا.
وهذا ما يقودنا إلى الدور التركي الذي يكتنفه بعض الغموض. فتصريحات وزير الخارجية ورئيس الجمهورية تنصلت من أي مسؤولية عن العملية، لكنها انطوت على رعاية ضمنية أو غض نظر على الأقل، ليبقى التساؤل فقط عن مستوى التطابق والتفارق بين أهداف تركيا و«ردع العدوان». فمن المحتمل في أحد التفسيرات أن التنسيق بين الطرفين بشأن إطلاق الحملة موجود لكن المدى الجغرافي الذي وصلت إليه الحملة ربما فاجأت الأتراك أيضاً. ولن نبتعد عن الحقيقة كثيراً إذا افترضنا أن قيادة الحملة نفسها ربما توسعت في أهدافها بعدما فاجأها انهيار النظام. فليس من المنطقي افتراض أن الحملة عند انطلاقتها كانت قد وضعت ضمن خططها التوسع جنوباً حتى مشارف مدينة حماه، وأن ذلك جاء بلا تخطيط مسبق بزخم السيطرة على كامل حلب وأريافها إضافة إلى المناطق التي كانت تحت سيطرة النظام في شرق محافظة إدلب، سراقب ومعرة النعمان وخان شيخون.
أما بعد إطلاق فصائل «الجيش الوطني» التابعة لتركيا لعملية موازية بعنوان «فجر الحرية» استهدفت أساساً مواقع قوات سوريا الديمقراطية في تل رفعت ومخيمات سد الشهباء، فقد تأكد الدور التركي على الأقل في هذا الشق من الحراك العسكري، وإن بقي هذا الدور غامضاً نسبياً في حملة «ردع العدوان».
ثمة تصريحات لافتة لرئيس الوزراء العراقي بشأن ما يحدث في شمال سوريا، لم نلحظ ما يماثلها سابقاً طوال سنوات الثورة والصراع في سوريا. ومنها قوله «لن يقف العراق مكتوف اليدين أمام ما يحدث»! في الوقت الذي اكتفى فيه الرئيس الإيراني بازشكيان بالقول: «يمكننا نشر قوات في سوريا لدعم دمشق ضد المجموعات الإرهابية إذا طلبت دمشق ذلك»! فبالنظر إلى الدعم العسكري الذي قدمته طهران وحزب الله اللبناني للنظام طوال 13 عاماً يبدو هذا التصريح غريباً. وهو ما يعزز التحليلات الكثيرة التي شاعت منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة ثم لبنان، وعبرت عن التباعد المستجد بين طهران ونظام الأسد بسبب تقاعس الأخير عن مساندة حزب الله في محنته الكبرى. كما تتحدث تقارير إعلامية عن سحب حزب الله لمعظم قواته من سوريا أثناء اشتداد الهجوم الإسرائيلي عليه في جنوب لبنان، وربما تسارع هذا الانسحاب بعد انطلاق «ردع العدوان» بدلالة تبخر قواته في المناطق التي كان يتمركز فيها في حلب وإدلب.
وفي عودة إلى تصريحات محمد شياع السوداني، فقد تواترت أنباء عن دخول قوات من الحشد الشعبي إلى الأراضي السورية لمؤازرة النظام في محنته الكبرى، مع العلم أن «الحشد» هو جزء من الجيش العراقي. ويصر الناطق باسم هذا الجيش على تكذيب تلك الأخبار مرفقاً مع التأكيد أن «فصائل المقاومة لها الحق في قتال الإرهابيين في سوريا! والمقصود بذلك فصائل شيعية عراقية، مثل «فاطميون وزينبيون» تأتمر بأوامر الحرس الثوري الإيراني وموجودة على الأراضي السورية لدعم النظام منذ سنوات، وربما ما يسمى بـ«المقاومة الإسلامية» التي تتبنى إطلاق صواريخ ومسيّرات في اتجاه إسرائيل ومواقع القوات الأمريكية في شرقي الفرات.
المعارك ما زالت مستمرة، ولا يمكن التنبؤ بمساراتها المستقبلية. ولكن يمكن تثبيت نقطتين منذ الآن: خسارة كبيرة لنظام دمشق ولإيران تضاف إلى خسائر طهران في لبنان، ومكاسب كبيرة لتركيا التي ستكون، بعد الآن، صاحبة اليد الطولى في شمال سوريا.
المصدر: القدس العربي