باعتباري أحد المعنيين في ما جاء في افتتاحية لمُلتقى العروبيين (السوريين أساساً)، عندما قالت إن الطريق ما يزال مفتوحاً أمام النخب السورية التي شاركت في المؤتمر التأسيسي للمسار الديمقراطي السوري لمراجعة «موقفها الخاطئ»، قبل «أن يكون سبباً في سقوطها الذي لا يتمنّاه لها أيّ مواطن سوري»، فها أنا أتفاعل هنا في هذا المقال قدرَ استطاعتي مع بعضٍ من النقد الذي طال ذلك المؤتمر أو بيانه الختامي.

وربّما هنالك نقصٌ في ذخيرة أولئك النقّاد، بسبب تأخّر صدور أوراق المؤتمر، التي يلخّصها دون أن يستغرقها البيانُ الختامي. ولعلّ صدور تلك الأوراق مؤخراً سيجعل مراجعة الأفكار التي ناقشها المؤتمر بشكل مفصّل أمراً متاحاً للمُهتمين.

على كلّ حال: كما أشار عديدون، شملت التحضيرات لهذا المؤتمر سنوات ثلاثاً ماضيةً تقريباً، وأُشيرُ هنا في هذه المناسبة إلى أن الراحلة الدكتورة بسمة القضماني رافقتنا في التأسيس لفلسفة المؤتمر، أو فذلكته، حتى وفاتها المؤسفة في ذروة قُدرتها على العطاء.

منذ بداية «مسار ستوكهولم»، الذي كان تأسيساً للمؤتمر المذكور، تمّت مناقشة أسباب فشل الديمقراطيين السوريين في تنظيم أنفسهم ووحدتهم، الأمر الذي ساعد خصومهم، أو من يريدون تقليص وجودهم وتأثيرهم، على تنفيذ سياساتهم التي أوصلت المعارضة السورية وقَضيَّتها إلى حيث وصلت حالياً.

وتحدّدت بشكلٍ مُشترَك عناوين المسائل التي اعتقدَ المشاركون في ذلك المسار أنّها السببُ في الفشل والخلافات التي غالباً ما كان ينفرطُ الجمع بنتيجتها: قضية الهوية… هويتنا، وإشكالية المركزية واللامركزية، ومسألة العلمانية والدين، وأُضيفَ لاحقاً إليها قضية التزام نهجِ التوافق (أو الاستفتاء في الجهة المقابلة) على الدستور ومبادئ ذلك الدستور ودرجة حصانتها. تلك كلُّها نقاطٌ لطالما كانت مستعصية، ورأينا أنّه لا بدّ من حلحلتها كضرورة للسير قُدُماً. وبالطبع كانت في خلفية ذلك الاستنتاج تركيبة بلادنا «الموزاييك» التي يرفض الاعتراف بها عملياً معظمُ أصحابِ النزعة القومية، وعديدون من أهل الإسلام السياسي.

توصَّلَ أحدُ اللقاءات التشاورية إلى صيغة نداء حول الهوية يرى في سوريا بحدودها الدولية الراهنة وطناً نهائياً، وهوية انتماء وجنسية سابقة على أي هوية فرعية مهما كانت. وفي لقاءٍ آخر، إلى أن اللامركزية ليست بنية أكثر حداثة وقابلية للتطوّر ومُرضية للمواطنين فحسب، بل هي العائقُ المُعتمَد في علم الاجتماع السياسي أمام الاستبداد، أو عودته بعد الانتهاء منه.

تمَّ الاتفاق وقتها على أنَّ تفاصيل تلك اللامركزية يمكن التوافق عليها بالحوار، مع تحكيم المصلحة الوطنية والخبرات الدولية. وفي لقاء آخر نُوقشت مسألة العلمانية بطريقة منفتحة ومشتركة، ورأى اللقاء أن جوهرها ومضامينها هي الأساس، من حيث ضرورة الفصل ما بين الدولة والدين وحيادية الدولة أمام الأديان واحترامها لها، ولو لم تُذكَر العلمانية صراحة. أمّا فيما يخصّ الدستور، فقد كانت تجارب اللجنة الدستورية المستعصية أمامنا، وكان لا بدّ من اعتماد مبادئ دستورية تكون عصيّة أو صعبة على التعديل لاحقاً، كما حدث في الكثير من الدول الحديثة؛ وذلك يمرّ في مطبخٍ توافقي يُنهي الهواجس ويمنح الضمانات للمكوّنات المتعدّدة بغضّ النظر عن نوعها: جغرافية أم إثنية وقومية أم دينية ومذهبية. تشمل تلك المبادئ خصوصاً الحريّات الأساسية وحقوق الإنسان وباقي «العدّة».

اهتمّت اللقاءات التشاورية والطاولات المُستديرة والورش أيضاً بآليات عقد المؤتمر وعضويّته وأجندته، وكذلك بتمكين المرأة والشباب، مع المرور بصعوبات اللقاء أثناء فترة وباء كوفيد-19، ثم الظروف السياسية الطارئة ومتطلّباتها أيضاً. كما كانت الرؤية السياسية والانتقال السياسي ومواجهة المستجدّات أيضاً من بين ما أُنجز.

تُعبّر الأوراق السياسية للمسار عن المسائل المذكورة كلّها، إضافة للتعرُّض إلى العملية السياسية وآليات فتح الثغرات في جدران استعصائها.

أخيراً، انعقد المؤتمر في بروكسل تحت شعار «من أجل سوريا موحّدة حرة مستقلّة» في 25 و26 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، وناقشَ وأقرَّ أوراقه وسياساته وانتخبَ أمانته العامة، وخيّمت عليه أجواء اعتبرته مدخلاً مفتوحاً يدعو الآخرين المتساوين إلى العمل والحوار والاجتهاد.

أُقِرُّ هنا أنّني كنت أتوقّع ردود فعلٍ أكثر وأشدّ عنفاً، وأرجو من أصحابها قبول الاعتذار لاضطرارهم تكثيف انتقاداتهم وانحرافها نحو مسارب جانبية بدلاً من البقاء ضمن تلك الجوهرية، الأمر الذي كان يمكن تفاديه لو كانت الوثائق بين أيديهم، لا أن يُضطرّوا إلى التركيز على البيان الختامي وحده، ويلجؤوا إلى نقاط خارج الموضوع أو إلى جانبه أحياناً.

لن يتّسع هذا المقال لكلّ ما وردَ في ردود الفعل على انعقاد المؤتمر وبيانه الختامي، لذلك سأتوقّفُ فقط عند نقاط أثارها ثلاثة أصدقاء أعزّاء، ثمّ أختمُ بما هو عام.

اهتمّت افتتاحية موقع «ملتقى العروبيين» كما هو مُتوقَّع منها باستشهاد تاريخي حول المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس عام 1913، وبما قاله وجيه كوثراني في مقدمة كتابه، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في 2019، الذي ألقى الضوء على ذلك الحدث التاريخي، ليس من وجهة نظر استعادة أفكار المشاركين في المؤتمر وإبداء الإعجاب «بحداثة» أو «تَقدُّم» هذا المُفكِّر أو ذاك، ولكن من وجهة نظر الوظيفة السياسية لتلك الأفكار (أي للمؤتمر ذاته) في خضمّ الصراعات الإقليمية والدولية قبيل الحرب العالمية الأولى. فالفاعلون في هذا الحدث، والتعبير هنا لكوثراني، «لم يكونوا المشاركين وحدهم، ولا كلامهم البليغ والجميل والفصيح (…) ولا حداثتهم السياسية في مقولات الإصلاح واللامركزية والأمة، بل أيضاً ثمة فاعلون آخرون كانوا ربما أكثر فاعلية في توظيف الحدث واستثماره وتوجيهه من الداخل والخارج معاً». وأشارت الافتتاحية إلى أن كوثراني قد تهيّأ له «أن يضع يده»، عبر التنقيب في أرشيفات وزارة الخارجية الفرنسية المُفرَج عنها مؤخّراً، على مراسلات قنصلية فرنسية لم يحدد اسمها، وهي في الغالب القنصلية الفرنسية في بيروت، تُبيِّنُ انخراطها في «الإعداد للمؤتمر ومن سيشارك فيه، تعاملاً إخبارياً وتحليلياً هادفاً لاستثماره سياسياً في مشاريع استقلالية وانفصالية»، وفي كثير من الأحيان «تفكيكية طائفية وإثنية».

ورغم أن الموقع «العروبي» يريد التلميح الظاهر إلى «عمالة» المُؤتمَرين؛ القديم في باريس والجديد في بروكسل، للغرب الذي لا يريد إلّا تقويض الأحلام القومية العربي، إلّا أنني أُشير هنا بدوري إلى أن ذلك ليس بعيداً جداً عن الحقيقة؛ فقد نوقشت لسنوات مسألة الدور «الإقليمي» في إضعاف المعارضة السورية وتشويهها واستخدامها، ومن ثمّ تَوجَّهنا ودعونا إلى اعتماد أوروبا كمكان أقرب إلى الحيادية وأقلَّ عنفاً في تدخّله في مسار تحقيق حاجاتنا. ولربما يجعلنا ذلك نخسر ميزة القرب من سوريا، لكنّه يعطينا حرية أكبر في العمل. واسألوا اللاجئين السوريين في أوروبا عن ذلك لو رغبتم! وإن كان ذلك التفضيل يجعلنا في خانة واحدة مع عبد الحميد الزهراوي، رئيس المؤتمر المذكور أعلاه، فيا مرحباً ونتشرَّفُ بذلك.

إشكاليةُ الفكر القومي العربي الكبرى هي «تسييسه» المُبالغ فيه لمسألة الحداثة، والخلطُ الزائد ما بينها وبين الكولونيالية أو الإمبريالية، ثمّ رفضُ كلّ ما يمتّ إليها (ليس كلّه في الحقيقة) وكلّ من يدعو إليها (ليس كلّهم في الحقيقة) على أنه «خارجيٌّ» مسموم. من هنا كانت تُهمة العمالة والخيانة سهلة على أهله، كما كانت كذلك تهمة الكُفر والهرطقة على الأصوليين.

حين يفعل ذلك القوميون، ألا يكونون خونةً للحداثة بدورهم؟ لأن «الدولة الأمة» أوّلُ منجزات الحداثة وأكثرها استهلاكاً وتَهتُّكاً. لكنّها تغدو مُتَّكأً رجراجاً كما حدث في حالتنا العربية، ومَهرباً من مستلزمات الحداثة عملياً وعلى الأرض المتاحة الماديّة. وقد تدهورت الدعوة «العروبية» كثيراً مع الزمن؛ وخصوصاً في هذا القرن؛ ولكنّها ما زالت جداراً حنوناً لأحبابها القدامى، يستندون إليه في زمنٍ لم يَعُد فيه من أنباء تخصّنا على طريقة الشاعر أبي تمام، ولا يبدو أنّها ستعود إلى الحياة قريباً.

نشر الصديق أسامة العاشور بدوره مقالةً في موقع الجمهورية تحت عنوان أي مسارٍ ديمقراطي سوري بالشراكة مع مسد؟، لخّصَ فيه المؤتمر وما قام به في تسعين كلمة من أصل ألف وثلاثمائة، انصبَّ مُعظمُها على مسد وليس على المؤتمر ذاته، أي أنه قام بإلغاء المُشاركين في المؤتمر وفي مسار ستوكهولم من خارج مسد، وتحت رعاية مركز أولف بالمه المهتم خصوصاً بوجود من هم من خارج مسد، وهُم عشرات القوى ومئات الشخصيات المستقلّة.

قال أسامة العاشور وجزمَ إنّ دور مسد كان أساسياً ومؤثِّراً في التحضير للمؤتمر والدعوة إليه، بدليل نجاحه ومقرّبين منه في حجز أكثر من نصف مقاعد الأمانة العامة المُنتخَبة، وهذا ليس حقيقياً، وإن كان لا يخلو تماماً من بعض الحقيقة وظلالها، وهذا من أهمّ سلبيات نتائج المؤتمر المُعترَف بها، والتي كانت ديمقراطيةُ عملية الانتخاب وتحريرُها لمصلحة النساء والشباب سبباً غير مباشر فيها. لكني أؤكّد أنها لم تكُن على الإطلاق بالشكل الذي ذكره أسامة، ولا أعلم لماذا يفعل ذلك، هو الذي لم يكن هناك بل سمعَ «طراطيشَ» الكلام فحسب، وحتماً لا يعرف كلّ الأسماء وانتماءاتها.

كذلك يُكثّف في مقالته الضوءَ على التذكير بما ذكرناه مسبقاً ولاحقاً، بشأن أننا أردنا في هذه المحاولة لتنظيم وتوحيد الديمقراطيين السوريين أن نتَجنُّب قدر المستطاع نقاط ضعف المحاولات العديدة السابقة التي فشلت، ونعتمد على وجود قناة مع الداخل السوري، والتي تمثّلت بمسد على اعتبارها تقبلُ بنا أكثر من دمشق وإدلب وإعزاز، بل تحتاجنا في شُغلها على أن تكون سوريةً وتثبت ذلك بالفعل، لا حبيسةَ منطقة بعينها وشرائح اجتماعية بذاتها وبرامج تنحصرُ بتلك المنطقة والشرائح. إن كنّا سنكون على الأرض السورية ونشعر بحريّة أكثر نسبياً في التعبير، فخيارُ شمال وشرق سوريا هو الأصحّ، مع الاعتذار من أسامة، ومجمل من هاجموا المؤتمر بطريقة جانبية وكأنّه مؤتمر لمسد فحسب.

من ذلك، ناقشَ أسامة مطوّلاً مدى تعارض بيان المؤتمر مع «العقد الاجتماعي» الصادر عن مسد في السابق، الذي رأى فيه إثباتاً على انفصاليتها المزعومة. في ذلك يمكن لمسد نفسها أن تردّ، لأنني شخصياً قد قرأت تلك الوثيقة ولم أتوقّف عندها، ولا علاقة للمؤتمر بها، وأعتقد أن على مسد أن تُراجع كلّ ما ورد فيها وحتّى عنوانها، وهذا ليس غريباً عنها كما تثبت لنا خبرتنا في السنوات الثلاث المُنصرمة، ما المانع! ولماذا يتمّ مناقشة المؤتمر بهذه الطريقة المعتادة في سياساتنا ومقالاتنا السورية، وفي منشوراتنا على صفحات التواصل الاجتماعي وبعقليّتها ومنطقها كوجبات سريعة؟

يُشير أسامة أيضاً إلى «اللامركزية» كواحد من المفاهيم والعناوين الأربعة التي اعتبرها المؤتمر ضرورية لسوريا وديمقراطييها، ليس لإنهاء الهواجس وتقديم الضمانات فحسب، بل أيضاً من أجل تفعيل المجتمع أكثر وتعزيز دوره في صنع القرار ومراقبة تنفيذه مباشرة. وقد استغربَ طرح اللامركزية من قبل مسد، وهي التي تُمارس سلطة مركزية وقمعية في مناطق نفوذها كسلطة أمر واقع. آخرون غير أسامة اعتبروا طرح اللامركزية إرضاءً لمسد وصفقة معها، واحترنا والله! فإن كان لهذا التخبّط من فائدة، فلعلّها تكون في استنتاج أن للمؤتمر والمسار بنيةً أخرى غير مسد، وإن كانت الأخيرة جُزءاً هاماً منه ويملك قوة على الأرض يعترف التحالف الدولي والعالم بما حققته في وجه داعش، ومن ثمّ الذهاب بها ومعها في اتّجاه نفي الفرقة والتقسيم وحالة التفتّت التي تزداد يوماً بعد يوم. مع الإشارة إلى أنّ هناك من لا يزال يرفض أهمية الحرب على الإرهاب، فقد التفّ المعارضون الرسميّون الآخرون، ووراءهم تركيا، حول الموضوع من دون أن يُقرّوا بأهميّته لشعبهم، وتهرّبوا من مسؤوليّتهم عن بلادهم على هذا الصعيد.

أمّا الصديق العزيز علي العبد الله، رفيقُ أيّام إعلان دمشق، فقد كان أقربَ إلى الهدوء والموضوعية في طروحاته، التي جاءت في مقالة أولى ثمّ في منشور طويل على وسائل التواصل الاجتماعي تَحوَّلَ إلى مقالة هامة ومفيدة فيما بعد؛ على الرغم من بعض مظاهر التسرُّع التي تجمعها مع آخرين أيضاً. ولن أتطرّقَ إلى ما قاله بالتفصيل الآن، لأنني أثقُ بالرجل وبعقليّته وروحه الوطنية؛ لكنّي سأتوقّف عند مسألة مهمة أثارها، وهي مقارنة غير مباشرة لبيان المؤتمر الختامي مع بيان المجلس الإسلامي السوري، الذي صدر في اليوم الثاني للمؤتمر مُستبِقاً قراراته وبياناته، كما جاء في مقالته.

قال أبو حسين فيما قاله إن بيان المجلس الإسلامي السوري «أقلّ حدّة وأكثر تعقُّلاً» من بيان «مؤتمر بروكسل»، ولا بأس باستخدام «أكثر تعقّلاً» رغم ضبابيّتها، ولكن وصف «أقلّ حدّةً» يُستَغرب وتَصعبُ ترجمته رغم إيجابيّته العامة.

وربّما كان العبد الله يشير إلى تجويف نقاط البيان وافتعال استكمالها حتى الرقم عشرة، وهو رقم شهير وذو شعبية سابقة. وقبل المتابعة أَذكُرُ أن صديقنا، من خلال معرفتي المباشرة به لفترة طويلة نسبياً، ذو خلفية قومية وعربية وفلسطينية وإسلامية معاً، مع أن ذلك قد رافقته نزعة ديمقراطية تُركِّز على المواطنة وحقوقها ولزومها، خصوصاً من خلال مشاركته في عمل ونشاط لجان الإحياء المدني منذ بدايتها مطلع هذا القرن في سوريا، ثمّ من خلال دوره القيادي في «إعلان دمشق».

يطرح بيان المجلس عشرة مبادئ أساسية كما يراها بديلاً «لما قد يصدر عن مؤتمر بروكسل» كما أشار علي العبدالله. وعلى الرغم من أنني لستُ متأكّداً مثلهُ من أنّ المجلس قد أراد الردّ على المؤتمر وعلى ما قد يصدر عنه، إلّا أنني أقبله من حيث المبدأ، وخصوصاً أن النقاط من الرابعة إلى التاسعة يمكن فهمها كذلك. فهو يتحدّث في الرابعة عن «الشفافية والوضوح وصدق النوايا»، وفي الخامسة عن التنوّع «الديني والثقافي والإثني» (دون ذكر التنوع القومي) وعن «خصوصيات كلّ مكوّن» التي تنعكس على «الصعيدين القضائي والاجتماعي» وليس في الحقل السياسي والدستوري، وفي السادسة عن تأكيد «الانتماء العربي والإسلامي» دون الإشارة إلى السوري نهائياً، وعن وحدة التراب السوري في السابعة مع وحدة الشعب، وكذلك أنه «يمكن اختيار أسلوب إداري مناسب عبر استفتاء داخلي» بأغلبية يمكن أن تكون 51 بالمئة، التي يُفترَض وجودها في الجيب وتستطيع «الأغلبية السنية أو العربية» إخراجها عند احتدام العصبيات. ثمّ تتحدّث الثامنة عن دستور «تَكتب مسودّته لجنة منتخبة من قبل الشعب السوري، ويتمّ التصويت عليه من قبله أيضاً»، و«أيضاً» هذه من نصّ البيان ذاته، وكأنّها تعصر الحصرم في عيون من يعترض على تلك الديمقراطية الأكثروية، وهي كلمةٌ (أي الديمقراطية) لم يذكرها البيان على الإطلاق.

وعلى الرغم من تَطرُّق المجلس للانتخابات الحرة والتداول في النقطة التاسعة، إلّا أنه لم يذكر في كلّ «مبادئه العشرة» الحريات الأساسية ولا حقوق الإنسان، وكأنّ الديمقراطية حبيسة صندوق التصويت وحده. وهو؛ رغم تجاهله في كل كلماته المواضيع التي وضعها مؤتمر المسار الديمقراطي السوري على الطاولة؛ فإنه يعارضها بالقول والفعل في بيانه ذاك. هو يذكر مثلاً في مقدمّته شيئاً عن «التوافق»، لكنه يَحيدُ عنه في كلّ النقاط التي تحتاج إلى التوافق وليس إلى فرض عن طريق «الشرع» أو نسبة الواحد والخمسين بالمائة. التوافق يُؤسِّس للدولة ودستورها، ويأتي الانتخابُ لاختيار حكوماتها. أعود أخيراً لأُذكّر بأنّ ما قاله علي العبدالله في مقالاته لا يزعج أحداً على الإطلاق، بل يدفع إلى التفكير والحوار وتشغيل العقل النقدي بمحاولات متعددة، يمكن أن يرفدها الاطّلاع على أوراق المؤتمر التي صدرت لاحقاً.

إلّا أن ما قاله العاشور مُستغرَب وغير دقيق، ويحيد عن الموضوع بشكلٍ مُسبقِ الصنع في متن مقاله وليس في خاتمته، التي اقترحت ثلاثة سيناريوهات يَتوقّع العاشور أن يثبت الثاني بينها، في حلمٍ يفضح الحالم ورغباته الكامنة أو الظاهرة:

أوّلها «أن يحظى المسار الديمقراطي باهتمام دولي يساعد ويشجّع ويدعم عملية الانتقال السياسي، لكن بشرط أن يستطيع حشد قوة سورية وازنة، تشمل تنظيمات وأفراد، وذلك بالاستمرار بالعمل على جسر الهوة بين القوى الديمقراطية السورية، وحثِّ مسد على الانفكاك التدريجي عن حزب العمال الكردستاني، وإعطائها للمكون العربي مساحة أكبر لضمان أمنه وسلامته في شرق الفرات».

أما ثانيها «فهو يتلخّص في سيطرة قيادة مسد على هذا المسار وقدرتها على فرض أجندتها عليه».

في حين «سينتهي الثالث بفشل المسار وتفكُّكه نتيجة تناقضاته الذاتية عند أول استحقاق جدي، لأن مؤشرات التفاعل والأداء السياسي وواقع الحريات في المنطقة تُظهِر خللاً واضحاً بين النظرية والتطبيق، كما أنّ البراغماتية التي تحاول مسد إظهارها في بعض القضايا تبقى مؤطَّرة ضمن رؤية مجموعة صغيرة من قيادات «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وبالتالي يتحول الاستثمار فيه الى جهد مهدور».

ولماذا ليس السيناريو الأوّل؟ فهو واحد من ثلاثة ولديه فرصته بالنسبة ذاتها، بل لعلّها تكون أكثر!

المصدر: الفرصة التي صنعناها في بروكسل