لم يكن دونالد ترامب في عام 2020 ليتوقّع خسارته أمام جو بايدن كما بدا آنذاك. لذلك ربّما، تحرّك بكلّ تلك العصبية والارتجال، ودفع باتجاه ما حدث في السادس من يناير في تلّة الكابيتول، وقام بكلّ تلك الضجة حول صحة العملية الانتخابية. في الانتخابات الأخيرة كان أكثر توازناً، ليس بسبب محاولات الاغتيال الفاشلة بالطبع، ولكن لأنّه أيضاً كان واثقاً من نجاحه، وأكثر ممّا كان عليه في المرة السابقة، ليس كمدمنيّ التفاؤل في صفوفنا، وأنا منهم إلى هذا الحدّ أو ذاك.
لذلك، عندما حفلت تعييناته لشغل المناصب المهمة في إدارته المقبلة بالمفاجآت الصاعقة، التي يمكن وصفها بأنها خارجة عن المألوف تماماً، وتحمل من روح المغامرة، بل المخاطرة الكثير؛ لم يستطع المراقبون بعد هضم الموضوع تماماً. وليس تعيين مذيع ونجم في شبكة فوكس وزيراً للدفاع، إلّا إحدى تلك المفاجآت، بل هي تهدف غالباً لزعزعة صفوف البنتاغون، ووضعه في حالة توتّر تسبق تغييرات طالما كانت «المؤسسة» تخشاها، لأنّها تقلب الأوضاع والآليّات المتبعة لعقود، انقلاباً كبيراً.. على الأقل.
من بين تلك التسميات أيضاً، ستيف ويتكوف مبعوثا خاص للشرق الأوسط، ومايك هاكابي سفيرا إلى إسرائيل، ويمثّل الأوّل عقلية رئيسه أفضل تمثيل، لأنه مَلِك الحقل العقاري في الولايات المتّحدة، بكلّ ما يعنيه ذلك من تذكير بطراز «بيزنس العالم الثالث»، الذي يريد ترامب تطبيقه في السياسة، إضافة إلى ما يهبه من راحة وتفهّم لرئيسه أيضاً. يمثّل الثاني عقلية المتديّن الذي يرى في إسرائيل مصدر تمتين وتحقيق لإيمانه، ومن ثمّ لا يعتقد أن هنالك أناساً «فلسطينيين»، ولا ضفة غربية، ينبغي أن تكون جزءاً من الدولة الفلسطينية التي هي جزء من «حلّ الدولتين»، الذي لا تؤمن الولايات المتّحدة في عصر ترامب المقبل به غالباً، لكنّها ما زالت تتكتّم على الأمر، مثل سرٍّ مفضوح!
وكان طبيعيّاً أن يهتمّ السوريون بشكل خاص بترشيح آخر طرحه ترامب، وهو اسم تولسي غابارد لمنصب إدارة الأمن الوطني، التي تتحكّم وتقود المخابرات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي ضمن 18 اختصاصاً أمنياً وسبعين ألف موظّف في الولايات المتّحدة. وظهر اهتمام بعض السوريين خاصة، لأن غابارد كانت قد قامت بزيارة سرية إلى دمشق عام 2017، التقت خلالها مرتين مع بشار الأسد، كانت الأولى لساعة ونصف الساعة بمجرّد وصولها إلى دمشق، والثانية قبل رحيلها عنها مباشرة، ولمدّة نصف ساعة فقط. هنا لا يمكن مقاومة تشغيل الخيال! تولسي غابارد امرأة من الجزر البولينيزية – من هاواي وساموا- غلبت على سيرتها الذاتية مهنتان: العسكرية والبرلمانية. تدرّجت في الأولى بعد تخرّجها بالمرتبة الأولى متفوّقة على الرجال في الكليّة الحربية، للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة؛ حتى وصلت إلى رتبة مقدّم في الاحتياط الآن. وترشّحت في الثانية في مجالس مسقط رأسها، ثمّ في فرجينيا وكانت نائبة في الكونغرس بين عامي 2019- 2020، حيث تركّز اهتمامها أثناء ذلك على كلّ ما له علاقة بالاستخبارات والأمن. وفي تاريخها السياسي كانت دائماً في صفوف الحزب الديمقراطي، حتى عام 2022، حيث أعلنت أنها مستقلّة، وانخرطت بين الجمهوريين في عامنا هذا بالذات!
لم يفرح بعض العرب بنجاح ترامب وحسب، بل أسهم أيضاً في تحقيقه. جاء موقف هؤلاء كرهاً بإدارة بايدن وتقصيرها، ولم يتوقّفوا قليلاً عند ما يمكن لشعوبهم وبلادهم أن تعاني منه لاحقاً
بعد إعلان ترشيحها، علّقت النائبة الديمقراطية عن فيرجينيا، أبيغيل سبانبرغر وهي ضابطة سابقة في المخابرات الأمريكية، على منصة «إكس» قائلة، إنها «تشعر بالرعب» من قرار ترامب. وأضافت: «إنها ليست فقط غير مؤهلة أو جاهزة، بل تتداول نظريات المؤامرة وتتقرب من الديكتاتوريين مثل بشار الأسد وفلاديمير بوتين» و»بصفتي عضو في لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، أشعر بقلق عظيم بشأن ما يمثله هذا الترشيح على أمننا القومي».
وكانت هيلاري كلينتون قد ألمحت إليها مباشرة في عام 2020 – عندما كانت غابارد لا تزال مرشّحة للرئاسة في الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين- ونُقل عنها قولها في حديث حول الروس، لمستشار باراك أوباما السابق ديفيد بلوف: «أعتقد أن عينهم على شخص ما في هذه الانتخابات حاليا، وهم يجهّزونها لتكون مرشحة الحزب الثالث. إنها المفضلة لدى الروس». لم تقدم كلينتون أي دليل ولم تذكر غابارد صراحةً، على الرغم من أن هويتها كانت واضحة من السياق. لكن التعليقات بلورّت القلق بشأن مواقف غابارد في الشؤون الدولية. وبين تلك الشؤون كان الشأن السوريّ دائماً محلّ الشكّ ومضرب المثل. إذن، هنالك عقدة، تربط بين ترامب وغابارد وروسيا والأسد. وهذه ربّما استعارة من جماعتنا من أنصار نظرية المؤامرة! تلك العقدة مصدر قلق إضافي للسوريين خصوصاً، وللأوروبيين والأمريكيين عموماً. لست متأكّداً – وحسب- من درجة إقلاقها لبقية الأشّقاء العرب والمسلمين! يهمّني شخصياً هنا تتبّع أي مؤشّرات على سياسة الإدارة المقبلة حول سوريا، بعد أن ثبت مراراً وتكراراً وجود لامبالاة باردة قاتلة، واستخفاف بملايين الضحايا والمشردّين وبحجم من الخراب، لا يملك بعض السوريين معه، عندما يرون خراب غزّة والجرائم الإسرائيلية إلّا الزفرات الحرّى.
سابقاً، قام دونالد ترامب – رئيساً- بإصدار أوامره بسحب القوات الأمريكية من سوريا، غير آبه بما يمكن أن ينتج عن ذلك من اختلال الموازين بين القوى المتدخّلة الداخلية والخارجية، قائلاً: «دعوا الآخرين يقاتلون من أجل تلك الرمال الملطّخة بالدماء»، حيث لا مكاسب نفطية، ولا عقارية، ولا تجارية، ولا شيء يهمّ أيّ مقاول! أمّا ترامب نفسه، فلم يكن مهتمّاً بالمكاسب الاستراتيجية، ولا يشعر بمشكلة الصراع مع موسكو وأخطارها، ولا تلحّ عليه مسألة الصراع مع الإرهاب ومشكلة الحدّ منه. هو يؤمن – جدّياً- بأنه قادر على وقف الحروب خلال لحظات إذا ما كان رئيساً، من خلال المساومة المركنتيلية المحضة وتقديم المنافع والتهديدات معاً على صينية واحدة، كما فعل مع صهره في فترة رئاسته الأولى لتحصيل اتفاقات إبراهام. حين بدأت عملية الانسحاب المذكورة سابقاً، رافقها ما يشبه الضوء الأخضر لعملية تركية لا تتردّد بالمخاطرة بالتوازنات الديموغرافية واللعب بها. وكان الإحساس مريراً على الجهة الأخرى من الحدود، حيث القوات التي يقودها الأكراد، بعد التضحيات الكبيرة ـ والنجاعة – في الحرب على الإرهاب.
مَن يستطيع أن يخلق مبرّراً لتسويق الإرهاب وترويجه أكثر منطقاً من هذا؟
هنالك عاملٌ جديد في المنطقة، هو الحرب الإسرائيلية على غزّة ولبنان، وتفاقم عنجهيّة اليمين القومي الديني الحاكم، واستعداده للمضيّ قدماً، ليس في لبنان وغزة وحسب، بل في الضفة الغربية وربّما إيران، مروراً في الطريق على سوريا. وإذا كان للسوريين – خارج أهل السلطة – من مصلحة في إنهاء الطموحات الإيرانية التي استشرت وتفاقمت، فلن يبقى من بلادهم ما يمكن أن يكفي أرضاً ودولة للاحتفال بذلك في العقدين المقبلين. لذلك، ربّما يكون مستوى العلاقة بين ترامب ونتنياهو، وقلق الأخير على مصيره إذا توقّف عن القتال، قد يفتح على المشرق أبواباً تؤدّي مباشرة إلى الخراب التاريخي. لذلك ربّما، لم يفرح بعض العرب بنجاح دونالد ترامب وحسب، بل أسهم أيضاً في تحقيقه، سياسيا أو إعلامياً أو ماديّاً، أو بالتجييش والحشد المباشر للانتخابات. جاء موقف هؤلاء كرهاً بإدارة بايدن وتقصيرها أو قصورها في لجم الوحش الإسرائيلي الهائج منذ السابع من أكتوبر في العام الماضي.. وذلك الطوفان، ولم يتوقّفوا قليلاً عند ما يمكن لشعوبهم وبلادهم أن تعاني منه لاحقاً.
يكفي استعراض تعيينات الإدارة الجديدة سبباً للاكتئاب أربعة أعوام مقبلة، أمّا السوريون فربّما يشعرون بنجاحات يحقّقها» الشبّيحة» في أقصى الأرض، تعطي الشرعية لشبّيحتهم، أصحاب حقوق الملكية بذلك اللقب؛ لو كانت لديهم رفاهيّة النظر في الحالة الدولية، أو الأمريكية! تحدّث بايدن وترامب لساعتين على انفراد عند زيارته للبيت الأبيض في الأسبوع الماضي، حول أوكرانيا والشرق الأوسط، فمن يعطينا عمراً يكفي حتّى الإفراج عن فحوى ذلك النقاش.