تشير الغارات الإسرائيلية المتزايدة على مواقع في سوريا إلى اشتداد التركيز الإسرائيلي على الشريان السوري لإيران والحزب. وهذا ما جعل عالم السوشيال ميديا يكتظ مؤخراً بالسيناريوهات التي تتنبأ باقتراب نهاية الأسد. وهي تحظى بحجم متابعة كبير، يعكس على الأقل رغبة المتابعين في أن تثبت السيناريوهات المتخيَّلة صوابَها، بما فيها أكثرها تفاؤلاً ومبالغة. مبعث التفاؤل، كما هو متداول، أن إسرائيل لن تقبل بالعودة إلى ما قبل الحرب على حزب الله، وبالتخلي عن شروطها لإنهاء الحرب التي تتضمن وقف إمدادات الأسلحة من إيران إلى لبنان، مروراً بالأراضي السورية.
تنفيذ الشروط الإسرائيلية يقتضي حتماً آلية للمراقبة والضبط على امتداد خط الإمداد في سوريا، ويقتضي تالياً إبعاد الميليشيات الإيرانية التي تتولى مهمة حراسته إلى جانب مهمتها الأصلية في مساندة قوات الأسد ضد معارضيه. والخلاص من الميليشيات الإيرانية قد يضعف الأسد، مهما قيل عن توقه للتخلص من النفوذ الإيراني. إلا أن الأهم في المتداول يقفز إلى كونه محكوماً بخيارين؛ فإما الانصياع للشروط الإسرائيلية، ما يعرّضه لانتقام إيراني لا رحمة فيه، أو الحفاظ على تحالفه مع طهران تحت طائلة انتقام إسرائيلي لن يكون أرأف به من الإيراني.
استهداف الصف الأول من قيادات حماس، ثم من قيادات حزب الله، شجّع على تداول فكرة تعرّض الأسد لمصير مشابه. ولا شكّ في أن فوز ترامب، ودعمه القوي المعلَن لنتنياهو، يساهم في تكريس الاعتقاد بعدم توقف نتنياهو عند تسويات وتوازنات كالتي كانت من قبل، فالرائج أن تل أبيب تتصرف على قاعدة اغتنام فرصتها التي لا تعوّض لإحداث تغييرات كبرى في المنطقة. وفي أقل تقدير، لن تقبل إسرائيل بتسويات تتيح لإيران التملّص من تنفيذ القرارات المتعلقة بلبنان، ومنها القرار 1701 الذي ينص في جانب منه على تأمين الحدود اللبنانية منعاً لدخول أسلحة لغير الجيش اللبناني.
ما يبقى مؤكداً في هذا السياق، أن السؤال عن مصير بشار عاد ليُطرح بعد أكثر من تسع سنوات على تراجعه، أي منذ التدخل العسكري الروسي لصالحه، ثم إعادة سيطرته على مساحات واسعة من الأراضي، خصوصاً تلك المحيطة بدمشق وحلب. يُذكر أيضاً أن مناطق سيطرة الأسد وسواه من سلطات الأمر الواقع مستقرة منذ عام 2018، والظن الذي كان سائداً أنها ستبقى بلا تغييرات جذرية طالما أن قوى النفوذ الكبرى لم تتوصل إلى تسوية نهائية في سوريا، التسوية التي قد تكون متصلة بملفات وساحات أخرى كأوكرانيا على سبيل المثال.
قياساً إلى خطر السقوط الذي كان مُهدَّداً به، يمكن القول أن الأسد صار في أفضل حال منذ ست سنوات، وفوق استعادة سيطرته على الأراضي بدا كأنه يتقدّم ببطء في مسيرة إعادة تدويره. فهناك أولاً دول خليجية أعادت العلاقات معه، وأعادته إلى الجامعة العربية، ثم هناك ما يظهر سعياً تركياً للتودد إليه، على الأقل بلا شروط تركية تلبّي تطلعات الفصائل والمعارضة اللتين ترعاهما أنقرة. ووضعية الأسد المستقرة لم تكن استثناء في السنوات الأخيرة، بل محمولة على سياق إقليمي من طي صفحة ثورات الربيع العربي، والعودة إلى ما كان سائداً قبلها، مع مزيد من التسلط والابتذال معاً.
لكن كان من المبالغة أيضاً الظن بأن عودة الأسد إلى ما قبل 2011 ممكنة، ففي أحسن الأحوال لن يكون قادراً على التخلص من حلفائه، إذ ساعدته كافة القوى على التخلص من معارضيه. وربما يكون التقاسم المستمر منذ سنوات بينه وبين الحلفاء هو أفضل الممكن له، بوصفه تقاسماً للحصص والنفوذ أشبه بالمافيوي، ولا يضعه أمام استحقاقات الحكومات والدول، ومنها التنفيذ التام للاتفاقيات مع موسكو وطهران.
يبقى أن أهم ما كان يتمتع به الأسد، وفق الصيغة السابقة، هو اطمئنانه إلى بقائه بمعزل عن الخطر، ولا نعني بذلك الخطرَ المُشار إليه في السيناريوهات الرائجة اليوم. الخطر على الأسد يأتي من أي احتمال لتغيير حقيقي، لأنه يضع مصيره مجدداً على طاولة البحث، حتى إذا لم يضع رأسه على الطاولة. وما يُنذر به الصراع الإيراني-الإسرائيلي هو واحد من الاحتمالات ليس إلا، ولو لم تصل عواقبه إلى حدّ الخطر على حياة الأسد شخصياً.
لقد بذل الأخير كل ما يستطيع من أجل الإبقاء على سلطته، وعلى النحو الاحتكاري المطلق الذي أسّسه أبوه. من ذلك أنه كان مستعداً للتنازل أمام قوى الخارج التي أتت لنجدته، ما دامت مطالبها تتيح له الإبقاء على احتكاره المطلق للسلطة على السوريين. ما يُلاحظ بسهولة أن موسكو وطهران لم تفرضا على الأسد أي تغيير في علاقته مع محكوميه؛ شطرٌ من هذا يرجع إلى اهتمامهما بالسيطرة على القرارات الكبرى وعلى بعض المرافق الحيوية لهما، أما الشطر الأهم فمردّه معرفتهما بطبيعة علاقة السلطة مع السوريين، وعدم اعتراضهما عليها من حيث المبدأ، وتأجيل البحث فيها حتى يحين موعد التفاوض الجاد على المستقبل.
بصرف النظر عن السيناريوهات التي تذهب إلى الاحتمالات القصوى، الأحوال في سوريا مرشَّحة للتغيير، ولو اقتصر على إنهاء النفوذ العسكري الإيراني. ففي هذه الحالة لن يتمتع الأسد، كما فعل لسنوات، بوجود حليفين يترك له التنافس بينهما مساحة من اللعب. استفراد موسكو بالسيطرة سيسمح لها بتشديد قبضتها عليه، بعدما ارتخت قليلاً منذ غزو أوكرانيا، وما هو متداول عن نية ترامب إنهاء الحرب الأوكرانية يذهب في اتجاه إبرام صفقة وتفاهمات من المحتمل جداً أن تشمل سوريا، وهذا ما يضع مصير الأسد على الطاولة بعيداً عن الحسابات مع طهران التي هيمنت على سياسة الديموقراطيين.
من المفيد تذكُّر أن الوضع الحالي في سوريا، الذي سمح ببقاء الأسد، سمح أيضاً ببقاء الجولاني، وصولاً إلى باقي سلطات الأمر الواقع الأخرى. أهم ما يميز هذه السلطات هو أسوأ ما تُنتَقد به، أي تسلطها على محكوميها. وإذا نأينا عن نظرية المؤامرة، التي ترى في تسلطها رغبةً خارجية في قهر السوريين و”تأديبهم”، فلعل السبب الرئيسي فيما آلت إليه الأحوال يكون في رغبة القوى الخارجية ضبط الساحة السورية إلى أن تنضج شروط التسوية، والقوى الراعية للتسلط الحالي هي ذاتها التي تدرك أنه مؤقت.
الخطر على الأسد حقيقي، لا لأن نتنياهو أو ترامب سيقصفان في لحظة غضب مكان تواجده، أو لأن طهران ستغتاله ردّاً على جحوده. الخطر آت متى حانت لحظة التغيير، وإن لم يكن التغيير المُرتجى من قبل السوريين، ولن يكون كذلك ما لم يكن بأيديهم.